نجحت تونس بثورة شعبية تحسد عليها في إزاحة حاكمها الديكتاتوري زين العالبدين بن علي بعد شهرين من احتفاله بالذكرى الثالثة والعشرين لاعتلائه السلطة. لم تدهشني مشاعر البهجة الكبيرة التي أبدتها شعوب المنطقة برحيل زين العابدين بن على عن قيادة تونس. فالشعوب التي يرزح معظمها تحت أنظمة دكتاتورية والتي تعلم تماماً مدى قسوة حكامها طالما تتمنى أن تتخلص ممن يستعبدونهم ويتجاهلون قضاياهم ويغضون الطرف عن مشاكلهم. البهجة التي أبدتها الشعوب هي دليل على أن الوعي السياسي في مجتمعاتنا لا يزال حياً رغم أدوات القمع والكبت التي لا تكف الأنظمة الحاكمة عن استخدامها ضدهم لقتل كل صوت مناهض للديكتاتورية. والبهجة التي أظهرتها الشعوب هي مؤشر أيضاً على أن المزيد من الثورات الشعبية في دول المنطقة ستتبع ثورة تونس.

إنها المرة الأولى في عصرنا التي ينجح فيها شعب من شعوب منطقة الشرق الأوسط في إسقاط ديكتاتور. وهي المرة الأولى التي تنتصر فيها إرادة شعب على كبرياء وصلف وجبروت طاغية. لهذا فإن ثورة تونس تحمل في طياتها الكثير من الأمال لشعوب المنطقة والكثير من التعقيدات للحكام الذين لم تعد ترغبهم الشعوب. كما أنها المرة الأولى التي يعلو فيها صوت شعب على أبواق طاغية عرف بأنه لم يراع الحقوق الإنسانية ولم يعمل على حماية مصالح شعبه ولم يكرس نفسه لحل مشاكل وطنه.

إعتادت شعوب المنطقة في القرون الستة الماضية على ثورات العسكر، ولكنها لم تعرف الثورات الشعبية العفوية التي تعبر عن كل الفئات والطبقات والطوائف. ولعل هذا هو سر الإعجاب الدولي المتنامي بثورة التونسيين. قام الشعب التونسي عفوياً يدافع عن حقوقه التي اغتصبها النظام الديكتاتوري. وإذا كنا نحسب للشعب التونسي قيامه بالثورة، فإنه من المهم التأكيد على أنه يحسب للجيش التونسي رفضه طلب زين العابدين التدخل لقمع الثورة، ويحسب للجيش أيضاً وقوفه خلف الثورة وليس أمامها أو في مقدمة صفوفها، وهو الأمر الذي جعل الثورة للشعب وأعطاها صوتاً صادقاً. كان بإمكان قادة الجيش الاستيلاء على السلطة بعد الفراغ الدستوري الذي خلفه هروب زين العابدين، ولكنهم آثروا ترك الشعب التونسي يعبر عن رؤيته للحلم الديمقراطي.

من أهم ما يميز ثورة التونسيين أيضاً هو أنها لم تكن مؤدلجة، فهي لم تكن إسلامية أو يمينية أو يسارية، ولكنها كانت لكل التونسيين وعبرت بالمقام الأول عن البسطاء منهم ممن لا يتبعون اليمين أو اليسار أو التيارات الدينية المتشددة. ولا شك في أن غياب الأدلجة جمع بين التونسيين ووحدهم في ثورتهم، ولو أن جماعة بعينها بدأت الثورة لما التف حولها الشعب بأكمله.

كان اندلاع ثورة التونسيين التي أطلق عليها ثورة الياسمين أمراً غير متوقع حتى أشعل محمد البوعزيزي النيران في جسده احتجاجاً على تعسف قوان أمن نظام زين العابدين معه، فقبل احتجاج البوعزيزي الشهير بنحو شهر كان النظام الحاكم يحتفل بالذكرى الثالثة والعشرين لما أسماه بالتحول. لم تكن هناك بوادر للثورة رغم تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة وغلاء المعيشة والتهميش الذي عانى منه التونسيون. لم يكن أي من هذه الأمور السبب المباشر في اندلاع ثورة الشعب التونسي. كان تعسف جهاز أمن النظام هو السبب المباشر الذي فجر ثورة الغضب بين الشباب التونسي ودفعهم للخروج إلى الشارع للتظاهر والإعلان عن رفضهم لنظام زين العابدين. وربما لو لم يتعسف الجهاز مع الشاب محمد البوعزيزي لما قامت الثورة ولبقي زين العابدين رئيساً. ولعل في هذا درس للأنظمة الدكتاتورية في منطقتنا التي تستخدم أجهزة الأمن للتنكيل بالشعوب.

لا شك أن الثورة التونسية، التي بدأت قبل شهر ولم تنته بعد بسبب استمرار هيمنة رجال نظام زين العابدين على أمور البلاد، بحاجة ماسة لتحديد أهدافها في المرحلة المقبلة حتى لا يتم اختصار القضية في رحيل زين العابدين. صحيح أن رحيل الطاغية أمر جيد في حد ذاته، ولكن الاكتفاء برحيله سيعيد تونس من جديد للمربع رقم واحد الذي انطلقت منه الثورة. من الضروري أن يتنحى المسئولون الحاليون عن مناصبهم وأن يبتعد السياسيون الذين كانوا مثل قطع الشطرنج في يدي زين العابدين. ومن المهم كذلك أن يبتعد الإعلاميون الذين طالما هللوا للطاغية وصنعوا منه إلإله الحاكم بأمره الذي لا يمكن معارضته أو انتقاده.

وإذا كان رحيل الحرس القديم من السياسيين والإعلاميين أمراً ضرورياً حتى تنهض تونس وتنضم إلى عداد الدول الديمقراطية، فإن على التونسيين الوعي بأن الدولة المدنية وحدها هي القادرة على احترام طموحاتهم وتحقيق أحلامهم بدولة القانون والمؤسسات التي تقدس الحريات العامة والمساواة والعدل وحقوق الإنسان وتعمل على إدارة عجلة التنمية الاقتصادية التي ترفع من مستوى الدخل وتخفض من معدلات البطالة. أما إذا لجأ التونسيون للدولة الدينية التي تغتال الحريات والحقوق وتصنف الناس بناء على هوياتهم وانتماءاتهم، فإن مصير تونس ما بعد زين العابدين سيكون بكل تأكيد أكثر سوءاً عن مصير تونس زين العابدين.

يصادر طغاة منطقة الشرق الأوسط حقوق شعوبهم ويغتصبوا كل امكانات بلدانهم ويلعبوا الدور الأكبر في انتشار الفقر والجهل والتطرف. ولكن الامور لن تبقى أبداً على حالها. من المؤكد أن ثورة التونسيين ستغير من وجوه الدول التي يحكمها طغاة من عينة زين العابدين. الدروس المستفادة من ثورة التونسيين كثيرة، ومن المرجح أن تتعلمها الشعوب قبل أن يستوعبها الحكام. الشعوب قادرة على فعل المستحيل إن اتحدت وأخلصت نواياها، ولقد أثبت التونسيون أن الشعوب قادرة على إسقاط الطغاة مهما عظم جبروتهم. أما الطغاة فليس أمامهم إلا الذهاب طواعية أو مواجهة الثورات الشعبية. لن يكون زين العابدين أخر الطغاة الذين تسقطهم شعوبهم، وستشهد المنطقة الكثير من العروش المنهارة والمزيد من الشعوب المتحررة. سينعكس المشهد الذي نراه حالياً، ستقف الشعوب المضطهدة على أرجلها وسيركع الطغاة على ركبهم. عندها ستشرق شمس الحرية من جديد في منطقتنا شريطة أن يحل محل الطغاة مدنيون يقدسون المباديء الإنسانية عملاً وقولاً.

[email protected]