قبل أن أصل بغداد بأيام كادت عبوة ناسفة زرعها أحد الارهابيين في ساحة التحرير وسط بغداد أن تقتل أخي الأصغر الذي خرج منها بكتف مكسور وسمع مفقود بعد أن تحطمت سيارته عليه من هول انفجار العبوة التي بات تصنيعها المحلي لا يحتاج سوى لنية سيئة وقليل من المال وكثير من التحريض، وكلها موجودة في العراق هذه الأيام.

كنت أهاتف صديقي وأنا أغادر مطار بغداد قبيل المغرب بدقائق لأبرم معه موعداً في صباح اليوم التالي الذي ذهبت فيه باكراً بصحبة سائق تاكسي طيب حدثني عن حياته كلها، من بينها قصة خاله الذي خدعه وسرق ماله بحجة دفعه كرشوة لتعيينه في وظيفة حكومية وسكنه مع أبيه بصحبة زوجته واطفاله. واضطراره لصفع خاله بعد ان تمادى في خداعهم.

كنت أوجه السائق نحو ما أظنه طريقا أسهل للوصول للموعد في كرخ بغداد وسط ازداحامات لا تعبأ بالوقت أبداً. بين فترة واخرى كنت الوم السائق الطيب، في نفسي، لعدم تمتعه بحنكة وشطارة بقية السائقين الذين يمرون من هنا و هناك لكي يصلوا قبل غيرهم لحاجز التفتيش الذي لاينتهي واحد الا لنقترب من آخر.

وأنا في دوامة لوم السائق الذي كان منشغلاً بتدخين سيكارة نافثا دخانها للخارج بحرقة، كنت أنقل عيني بين ساعتي وحاجز التفتيش الذي يسمح بمرور سيارة واحدة فقط كل بضع ثوان، حاسدا من يمرق من بين سيارتنا وبقية السيارات ليصل للحاجز ويمر متباهياً.

فجأة! اهتزت السيارة والشارع والحاجز والأرض ورأس السائق وشعرت كأن أحدهم دفع برأسي للأمام وأعاده لمكانه بقوة. ورافق ذلك الاهتزاز الكبير صوت مثله.

التقتنا بحثا عن مكان الانفجار. لكن هروب الناس على بعد أمتار من امامنا وارتفاع دخان مختلط بغبار ترابي جعلنا نكف أنا وسائقي صامتين عن البحث مركزين نظرنا المشدوه قرب الانفجار الذي حطم زجاج السيارات التي لا تبعد عنا سوى أمتار وقد هرع رجال حاجز الفتيش لقطع الطريق وتحويل المرور باتجاه آخر وسط ارتباك واضح على وجوه الجميع.

كان منظر أقدام الرجال الممددين وسط الشارع محزناً وقد تجمع حولهم عدد قليل من الناس منتظرين وصول سيارات الاسعاف.

حمد السائق ربه كثيراً على انه لم يمر قبل غيره للوصول للحاجز والا لكنا مكان هؤلاء البؤساء الممددين الذين هم على الأغلب عمال ذاهبون لتحصيل الرزق لأطفالهم المنتظرين.

قال السائق هذه عبوة محلية الصنع وكانت مدفونه تحت الأرض ولم تكن موضوعة بكيس أو صندوق لان التراب تصاعد اكثر من الدخان وصوتها كان مكتوما وليس قويا جداً والا لكان عصفها وصل لسيارتي وربما تسبب بكسر الزجاج على رؤوسنا على الأقل. واخبرني ان معظم العراقيين باتوا اليوم يعرفون نوع العبوة الناسفة من صوتها ومكانها، وحجمها، وكثيرا ماكشف مواطنون عبوات مزروعة على جانبي الطريق واخبروا الشرطة عنها.

حين وصلت لصديقي وقصصت عليه ماحصل هنأني على السلامة ودخلنا في الحديث المتشعب عن السياسة والبلاد والعباد دون ان نتوقف لأكثر من دقيقة على ماحصل قبل قليل في الشارع.

وهو ما تكرر مع كل من التقيه وسط استغرابي من استسهالهم لما شاهدته وكدت أن أكون أحد ضحاياه.

لكن يبدو أن حادثي في صباحي الأول ببغداد، مادمت قد خرجت منه سالماً، هو الأسهل والأقل ضرراً في مشهد أصبح شبه عادي في صباحات ونهارات بغداد التي تستعد لاستقبال مؤتمر القمة العربية منذ المطار حتى أبرز شوارعها وفنادقها من خلال ورش العمل المنتشرة فيها.

حتى الموت في بغداد دخل في ثلاجة العواطف منذ سنوات ولم يعد موت أحد بالحادث الجلل. بل تكاد عيون أهل بغداد بلا دموع لكثرة مانزفت في السنوات القليلة الماضية حين تظاهر عليها القريب والبعيد للفتك بها بروح شريرة حفزت وحوش الأرواح على الخروج من مكامنها التي كانت تنام فيها منذ مئات السنين دون أن تتمكن البلاد اليوم بشكل تام من ترويض تلك الوحوش جميعا لتستقر في مخابئها مرة أخرى.

في اليوم الآخر دخلت مع أهل بغداد في حومة المشهد اليومي الذي يقتل الوقت بلذة غريبة وسط حميمية المكان التي تتراجع نحو وحشة غريبة تكاد تأخذ بخناق أي قادم جديد للمدينة غير متعود على مزاجها ومزاج أهلها الغريب الذي يتأقلم سلباً مع كل عاصفة.

وكان طريقي على مكان التفجير الذي هزني في صباحي الأول ببغداد شبه يومي حد تجاوزه دون النظر اليه وأنا أستمع لتعليقات الناس وقت وقوع الحادث التي لا تكف عن تكرار عبارات quot; الله الحامي، لا أحد يموت ناقص عمر، كل واحد يموت بيومهquot;. لكنها عبارات تخدير ربما بدونها لن يقوى البغداديون على مواصلة حياتهم وسط كل هذا التهديد المتراجع حينا والمتقدم أحياناً وفق خلافات وائتلافات الساسة الذين أكثرهم ماهم بساسة.

حين تدخل بغداد تنتابك مخاوف القتل من كل جانب وبعد مكوثك فيها تستسلم مع أهلها للحظة الموت الكامنة في كل زاوية وحين تغادرها تتملكك الخشية على أهلها من أخوة لك وأخوات وأصدقاء وذكريات تشكل جميعها وطناً موهوما يتردد صداه في أفواه المتسابقين على السلطة والنفوذ والجاه. وتدرك النقمة عليه في عيون البائسين وماأكثرهم في العراق ينتظرون مخلصاً طال انتظاره لينهي رحلة العذاب التي تكاد تكون أبدية لهم.