لم يعد خافياً على أحد، ما تشهده الساحة السياسية في كردستان العراق، من خلطٍ كبير بين الدين و السياسة. إذ يكاد لا يمرّ يوم من السياسة في كردستان، دون أن يكون مخلوطاً بquot;خلطةquot; دينية، من هذه الجماعة الدينية أو تلك، ومن هذا العالم الديني أو ذاك.
لا مشكلة في الدين، بالطبع، إن بقي في حدود دور العبادة، والصلوات لله ورسله.
لا مشكلة للدين، إن حافظ شيوخه وفقهاءه على علاقة المؤمن الداخل في الدين بربّ العباد، في كونها علاقة جدّ فردية، يسعى إليها من يشاء، متى وأينما شاء.
لا مشكلة في الدخول إلى الدين، طالما يكون الإيمان فيه مبنياً على علاقة عبادوية فردية خالصة جداً، بين الفرد الواحد الأدنى والله الواحد الأعلى.
وإنما مشكلة الدين الأساس، هي في إصرار الفوق الديني، على علاقة الدين بالدنيا للّي عنق حقيقتها، وتحويلها من علاقة فردية جداً، إلى علاقة جماعية، فوق ضرورية، وإجبارية، الأمر الذي يفرض على كل الدنيا بكل ناسها الدخول في كل الدين، كما يريد لذلك الكل المؤمن للدين والدنيا أن يكونان.
مشكلة الدين الأساس، تكمن في إصرار شيوخه على quot;الدولة الدينيةquot;، ليصبح الدين فيها سياسةً وثقافةً واجتماعاً واقتصاداً، وعلماً للأرض كما في السماء، ودستوراً في الدنيا كما في الآخرة.
هنا، إذ يخرج الدين من بيوت الله إلى بيوت السياسة، ويصبح الدين دولةً والدولة ديناً، آنئذٍ يصبح الدين مشكلةً في الدنيا، أكثر من أن يكون حلاً.
هنا، إذ يصر شيوخ الدين على quot;تسييسquot; الدين، يصبح هذا الأخير مشكلةً للمقدس والدنيوي، للداخل في الدين ولخارجه، ولدين الله ودنياه، في آن.
حضور الدين، كظاهرةٍ سياسية أو quot;مسيّسةquot;، في كردستان العراق، بات حضوراً ملفتاً، في السنوات الأخيرة.
القائمون على شئون quot;تسييسquot; الدين في كردستان الآن، أحزاباً وهيئات، شيوخاً أفراداً وجماعات، لا يقلّدون جماعات quot;الإسلام السياسي المتشددquot; المنتشرة في عموم العالم الإسلامي فحسب، وإنما يزاودن على شيوخها أيضاً بالدين طوراً، وبالسياسة أطواراً أخرى، فيذهبون في فتاواهم أحياناً، ما لايذهب إليه آخرون، ويقولون الدنيا بالدين، ما لا يقوله أقطاب الدين الإسلامي وشيوخه الأقربون أنفسهم.
هؤلاء، باتوا يمارسون، بإسم المقدس، دور الرقيب المتعدد على كلّ كردستان وكلّ دنياها.
كلّ شيءٍ في الدنيا، على حدّ إيمانهم، لا بدّ له أن يمرّ بفلتر الدين. فلا حياة في دنيا كردستان، بحسبهم، خارج الحياة في دين كردستان.
فهذا وزيرٌ لأوقاف كردستان، يحرّم على الآخرين المختلفين، ما هو حلالٌ للذين على دين وزارته.
وهذا شيخٌ في اتحادٌ علماء دين كردستان، يفتي بتكفير من لا يفكّر على طريقته، في زج الدين بالسياسة، أو دسّ هذه الأخيرة في الدين.
وهذا خطيبٌ في جامعٍ بكردستان، يفتي بقتل ذميٍّ شاء الله أن يخلقه على ذمة دينٍ آخر.
وهذا حزبٌ من أحزاب كردستان الإسلامية، يخوّن كاتباً شاء أن يكون حريته، ويفكّر على طريقة كتابٍ آخر.
الأحزاب الكردستانية الإسلامية، وما حولها من شيوخٍ سياسيين، أقاموا كردستان ولم يقعدوها، لأجل زج quot;دستورquot; الدين في دستور كردستان، إلى أن أصبح quot;دستوراً كوكتيلاًquot; فيه ما يسمح بالعبور إلى الدولة الدينية، أكثر من العبور إلى الدولة المدنية(يُنظر المادة السادسة، الفقرات 1، 2،3).
وتأسيساً على السياسة الدينية ذاتها، يخرج علينا الماضون في quot;أسلمةquot; المجتمع والدولة، كلّ يومٍ بفتوى جديدة، تكفّر فكراً، أو تحجب فناً، أو تمنع كتاباً، أو تقتل شعراً، أو ترتكب مجزرةً بحق مكتبةٍ، والحجة هي دائماً واحدة: quot;المساس بالمقدسات والإستخفاف بالذات الإلهيةquot;.
أما الهدف المعلن والمخفي لكلّ هذا الحجب والمنع والتكفير والإرهاب الفكري ضد المختلف، فهو quot;أسلمةquot; كل مظاهر الحياة المدنية، للفوز بكردستان دولةً دينيةً، يكون فيها الإسلام ديناً ودولة، على الطريقة الإخوانية المعروفة: quot;الإسلام هو الحلquot;.
أما الجديد الممنوع، بحسب فتوى الجماعات الكردية الجامعة بين الدين والسياسة، هذه المرة، فهو ديوان شعري للشاعر الكردي قوبادي كوليزاده، بعنوان quot;سوتيان الثلج الضاج بالزرازيرquot;، صادر عن دار آراس للطباعة والنشر في كردستان.
أول حديث المنع بدأ بحديث جمعةٍ كردي، في مسجد محمد فوزي بهولير، وذلك بquot;فتوى عاجلةquot; صادرة من الخطيب الكردي مسعود كاني، الذي حصل على نسخة من الديوان الشعري قبل توزيعه في الأسواق(آكانيوز، 13.01.11).
أما آخر المنع، الذي أوصل quot;سوتيان الثلجquot; إلى نهايته الأكيدة، وذلك بسحب كل الكتاب من ذاكرة كل كردستان، فقد رسى في برلمان أقليم كردستان، الذي وافق(بحسب آكانيوز وجهات إعلامية أخرى) على الفتوى الدينية، وأدغمها بquot;فتوى مدنيةquot;، تحجب الكتاب وتحكم عليه بالإعدام في كردستان.
حسناً فعل مدير مؤسسة آراس بدران حبيب أحمد، الذي اتهم برلمان كردستان بانتهاكه لقانون المطبوعات في كردستان، تحت ضغط الجماعات الإسلامية، أو إسلام الشارع الذي يخلط بين الدين والدنيا، ويقمع الشعر بالشعار، والتفكير بالتكفير.
وحسناً فعل 1300 مثقفاً وكاتباً وفناناً وأكاديمياً وبرلمانياً في إقليم كردستان، الذين تقدموا قبل أيام بمشروع قانون يطالب بquot;تحديد اقامة صلاة الجمعة في ثلاثة مساجد فقط في المدن الثلاث الكبرى بالاقليم لمنع نشر التطرف الديني بين المواطنين(...) ونقل الصلاة مباشرة الى المساجد الاخرى في مراكز المدن والقصبات والقرى والمنازل، على ان يكون الخطباء من ذوي الاطلاع المعمق والخبرة الجيدة بالدين الاسلاميquot;(ا.ف.ب، 09.01.11).
الدين لله، ولكلٍّ حريته في أن يسعى إليه كمفردٍ كما يشاء. أما الدولة فلا دين لها.
الحرية لا تفتي، وإنما تقول؛
لا تقاتل وإنما تجادل؛
لا تعدم ولاتهدم وإنما تبني؛
لا تكفّر وإنما تفكّر.
اتركوا quot;سوتيان الثلجquot; لحريته في دنياه، واذهبوا لحريتكم في الأخرة كما تشاؤون.
هوشنك بروكا
التعليقات