من الأمور التي لا يمكن هضمها ولا فهمها هذا الشغف الأمريكي العجيب بالعزف على أنغام الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب في الدول العربية.
وأمريكا تعلم علم اليقين بأننا، كأمة عربية واحدة وذات رسالة خالدة، لا نتحمل العيش بدون قاتل ومقتول، ظالم ومظلوم، سارق ومسروق، ساجن ومسجون، بدون حق ولا عدالة ولا قضاء ولا قانون.

وبدون أحقادنا الدينية والطائفية والقومية، ودون إرهاب وتفجيرات واغتيالات وسرقات نرى الحياة بائسة ًوفارغة وبدون طعم. قومية ٌتكره قومية، ودينٌ يحارب آخر، وطائفة ٌ تتربص بأخرى، ومدينة ضد مدينة، وقرية تسخر من قرية، مهما حاول بعضنا المكابرة والإنكار والتظاهر بغير هذا الخراب.

والحاكم العربي الذي تزوره السيدة هيلاري كلنتون لكي تحثه على الالتزام بالديمقراطية، وتقنعه باحترام حقوق الإنسان، سوف يهز لها رأسه موافقا ومباركا، لكنه، وفور خروجها من مكتبه الرئاسي الباذخ، سيضحك طويلا من سذاجتها، ومن جهلها الفاضح بقوة شكيمة المواطن العربي، وشدة تمسكه بتراثه الديكتاتوري المقدس، واستحالة جره إلى ما تطالب به السيدة، ولو بقوة السلاح.

تقوم فسلفة أمريكا، في مكافحة الإرهاب، على أساس ضخ مزيد من السلاح والمال على أنظمة الحكم العربية القائمة لتمكينها من القضاء على الإرهابيين الذين يشكلون هما أمريكيا بالدرجة الأولى، واستحقاقا إلزاميا على حلفائها في المنطقة.

ورغم أن المال والسلاح ضروريان في معارك الشرف والدفاع عن الحمى، إلا أن ترحيل أنظمة الحكم الجائرة، وخصوصا منها الحليفة َ الحميمة لأمريكا، أو إجبارَها على احترام شعوبها، وهذا أضعف الإيمان، والكفِ عن الظلم والقهر والتجويع، وإنفاق المليارات من الدولارات على تحسين ظروف عيش الملايين من الجياع، وتوفير فرص العمل للعاطلين، وإقامة المشاريع، ورفع كفاءة التعليم، وتأمين الدواء والغذاء، أكثرُ نفعا وأسلم عاقبة وأسرع شفاءا وسلامة.

ثم إن ورود ذلك المال وذلك السلاح من أمريكا، بالذات، لا يُطفيء نيران الإرهابيين، بل يزيدها اشتعالا، ويضاعف الفجوة بين المواطن العربي وبين حكامه، ويمنح الإسلاميين المتزمتين مزيدا من القبول الوطني والديني، ويجعل إرهابهم، في نظر الجماهير العريضة الجاهلة، وطنية خالصة وجهادا مقدسا لإعلاء كلمة الحق والعدل والدين.
في ظل سياسات القهر والتجويع التي يتقنها حكامنا الأشاوس لا يزدهر الإرهاب فقط، بل تنتعش أفكاره وشعاراته، وتتغلغل سمومُه في كل منزل ومدرسة ومسجد ومقهى، وتتحول إلى ثقافة وطنية شاملة ومقدسة لا يمكن قهرها بكل أموال أمريكا وأسلحتها وعظمة سلطانها وجبروت حلفائها.

والشيء بالشيء يذكر. راح بعض الرسميين والمحللين العرب يتهمون الموساد الإسرائيلي بإشعال الحرائق والانتفاضات في وطننا العربي الكبير. قد يكون للموساد دورٌ هنا أو هناك، ولكن اتهامات رفاقنا الوطنيين العرب تمنح جهاز الموساد قوة سحرية هائلة، وجبروتا وذكاء ودقة في التدبير والتخطيط والتنفيذ، قد لا يكون يملكها بالفعل.

ويجهل هؤلاء الوطنيون، أو يتجاهلون، أن العيب فينا، بكل تأكيد. فلولا الأحقاد الدينية والطائفية والعنصرية والمذهبية والمناطقية المتوارثة جيلا عن جيل، ولولا الجهل والأمية، ولو الفقر والعوز، ولولا الظلم والقهر، ولو الفساد والاستغلال واحتكار الثروات، لما وجدت الموساد موضع قدم في أي زقاق في أية مدينة عربية، من المحيط إلى الخليج.
فلنعترف بأن الضغائن، بكل أشكالها وألوانها، قائمةٌ قاعدةٌ في منازلنا ومدارسنا ومساجدنا وكنائسنا. ليس اليوم، ولا من الأمس، بل من أول قيام دُولنا وهيمنة حكامنا علينا بالانقلابات أو بالمؤامرات أو بالتحايل على الدساتير والقوانين. فجماهيرنا العريضة التي تتقاتل فيما بينها، تتقاتل بكلام الله وبأنبيائه وأوليائه ومقدساته، ويزعم قادتها الميامين أن دافعهم هو الغيرة على الله ودينه ورسوله. ألا ساء ما يفترون ويأفكون.

إن هذا وحدَه ما يجعل الموساد والسي آي أي وأية مخابرات أخرى، من العالم الأول والثاني والثالث، تعبث بأرواحنا، وتسمم أفكارنا، وتستثمر أحقادنا. وقبل كل شيء، تعرف أننا مستعدون للعمالة، وجاهزون للخيانة. أما الوطن، وأما الدين، وأما الشرف، فليست سوى أحلام يتلهى بها الفاشلون.
أتمنى لو تتوقف السيدة هيلاري كلنتون عن زياراتها لعواصمنا، وتكف عن النفخ في قـِرَبنا المثقوبة، لتريح وتستريح.