ما أجمل الدين حين يكون واحةً للغرباء.. وطناً للمساكين.. جسراً إلى الآخر.. وما أتعسنا حين نقلب تعاليمه إلى دعوة للحرق والقتل والتدمير وإزهاق أرواح الأبرياء! لا نتكلم هنا عن دين بعينه أو معتقد ما، بل عن أي دين وأي معتقد ينظم علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته بذاته، وبالآخر، وبمجتمعه. لكن تبقى العلاقة الأساسية هي علاقة المخلوق بالخالق، والتي إذا صحت.. صحت العلاقات الأخرى. فما السبب الذي يدفع بعض الأفراد والجماعات إلى التخلي عن معاني الرحمة والنور والعدل، وتبني أفكار العنف والتعصب والنار والقوة؟ هل المشكلة في quot;الأفكارquot; أم في quot;طريقةquot; فهمها وتفسيرها أم في الواقع المحبط سياسياً واجتماعياً الذي يدفع أفراداً وجماعات إلى الانتحار والانفجار؟

ما حدث ليلة رأس السنة 2011 بالقرب من كنيسة quot;القديسينquot; بمدينة الأسكندرية المصرية يفتح كوة في جدار أمن شعب بأكمله، لا يعلم أحد متى سيتم السيطرة عليها.. إنذار نهائي لحالة دمار قادمة إن لم ننتبه إليه علينا أن نستعد لدفع فواتيرا باهظة.. إن العنف الديني ليس سوى دائرة واحدة من دوائر العنف الإنساني المحيطة بنا، حرب يشنها أصحابها ظناً منهم أنها بتفويض إلهي، فهي حرب مقدسة، ضد من يتصورنه على باطل.. ولا تقبل أنصاف الحلول، ولا التسامح مع الخصوم، ولا احتمالات الخطأ وسوء التفسير!

وإذا كانت البشرية شهدت تطوراً هائلاً في المائة عام الأخيرة، إلا أن هذا لم يمنع وقوع مجازر دموية رهيبة راح ضحيتها الملايين، مثلما حدث في رواندا لأسباب عرقية، أو البوسنة والهرسك لأسباب عرقية ودينية. وهناك من يرى أن العنف دافع غريزي لدى البشر للبقاء والتفوق على الآخر، والدفاع عما نعتقده حقاً أو صواباً. كأن التاريخ البشري في حقيقة الأمر ليس سوى تاريخ من العنف، تعاني منه الدول مثلما يعاني منه الأفراد والأقليات العرقية والدينية.

يغذي ذلك حالة الخواء الروحي وغياب المعنى والقيمة، فالأنماط الاستهلاكية التي نراها في الأفلام والأغاني والمسلسلات والكتب والصحف لا تحفل بالقيمة بقدر ما تحفل بالجاذبية والإثارة والتسليع. وكأن الإنسان بعد حضارات آلاف السنين يتخلى عن قيمه عائداً إلى عصر همجي بدائي، خال من المعنى، وجاهز للقتال بأعتى الأسلحة وأشدها فتكاً.
ولأن الدين بمثابة المرجعية الأولية والأساسية لمعظم البشر، حتى وإن أنكروا ذلك، أو هو جدار الحماية الأخير، وآخر معلم من معالم الهوية. لذلك فإن النكوص إلى مظاهره الشكلية، واستلهامه بصورة سلبية، وتصديره إلى الآخر، على نحو مبالغ فيه، يتناسب طردياً مع البطالة، والتخلف الحضاري والثقافي، وشيوع الخزعبلات، والفساد الاجتماعي والسياسي، وعدم احترام قيم العلم والعمل. فعندما لا يجد الإنسان شيئاً يحتمي به في مواجهة الحياة، ويعطيه قيمته الإنسانية كالعمل والنجاح والمشاركة السياسية، فإنه يحتمي فوراً بمظاهر الدين، ويبالغ في التمسك بها، وبتصوراته الخاصة في إظهار الانتماء لهذا المذهب أو ذاك، وبالتالي يستحق الآخر المختلف عنه الإبعاد والموت لأنه مُهدد لوجوده الهش والمزيف.

لا يتحمل من قاموا بهذا التفجير، أو ما يشبهه في أماكن مختلفة، الذنب وحدهم، لأنهم مجرد نتيجة لواقع مشوه وفساد ينخر في الشخصية والمجتمع لدرجة أفقدهما كل تماسك أو اتزان. هذا لا ينفي إدانتهم ولا يخفف من جريمتهم اللاإنسانية، لكنه يجعلنا نفكر حتى لا نختزل الحادث في شخص quot;مختل عقلياquot; أو quot;مضطرب نفسياquot; أو quot;مؤامرة خارجيةquot;، إنما مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة والتي باتت لا تحتمل عدم الحل الجذري.

لن تحل مشكلة العنف الديني بصورها المعقدة.. بمجرد إطلاق الشعارات الجميلة وتبادل الحوارات بين رجال الدين الرسميين، والاستماتة في الدفاع عن الذات في مواجهة خطاب الآخر. وإنما بمعالجة جذور المشكلة، بإتاحة جدران حماية متنوعة أمام الإنسان مثل تشجيع قيم العلم وتحسين منظومة التعليم، احترام حقوق الأقليات أيا كان نوع اختلافهم عنا، التخلص من صور العنف الرمزي ووهم القداسة والاستعلاء على بقية البشر، حلول أفضل للبطالة والأزمات الاقتصادية والتأمين الصحي، منع النقاش حول الهوية الدينية وتكفير الآخر وهو أمر يتم علنا على الفضائيات وكأن البعض يمتلك صك الإيمان الوحيد من الله، فلكل إنسان حرية اختيار الطريق إلى الله، أو حتى الكفر به، ويتحمل وحده الوزر والإثم.. وما يهمنا نحن كشركاء في وطن واحد هو التعايش على أساس الاحترام والمحبة وعدم الإيذاء أو الإضرار بالآخر، أو بعنى آخر الحياة على أساس المشترك الإنساني وتقبلنا الإيجابي لأنفسنا والآخر.

لأن ببساطة لا يفكر المرء في أن يصبح quot;إرهابياًquot; أو quot;عدوانياًquot; تجاه المجتمع، إلا إذا تشوهت صورته عن نفسه.. عندما يفقد كل شيء ولا يجد لديه ما يخسره، هنا فقط يلجأ إلى سلوك انتحاري للإعلان عن نفسه وإدانة منظومة سياسية واجتماعية لم توفر له سبل الحياة الكريمة. لكن متى ما توفرت تلك السبل فإنه لا يشعر فقط بالرضا عن الذات، وجدوى حياته، بل يصبح أكثر تقبلاً للآخر المختلف معه في الدين والعرق والوطن.

ونلاحظ في الأعوام الثلاثة الأخيرة التي تزامنت مع الأزمة الاقتصادية العالمية، كثرة الأزمات ذات الصبغة الدينية، حدث هذا في بلاد كثيرة، مثل الهند، باكستان، السودان، الجزائر، الصومال، مصر، وغيرها.. ففي فترات الأزمات تنتعش الاتجاهات الفكرية الأكثر تخلفا وتشددا ويتراجع هامش التسامح الاجتماعي ويبحث الناس عن كبش فداء لتوجيه طاقة الغضب نحوه.

الجانب الآخر للمشكلة، يتمثل في استغلال الدين وتوظيفه سياسياً. ففي معظم المجتمعات ما أكثر الحملات التي تتعرض للخصوم السياسيين بأنهم لا يحافظون على الصلوات أو يعاقرون الخمر أو يسخرون من معتقدات الآخرين. بينما يكرس بعض رجال السياسة أنفسهم كحماة للدين والمعتقدات ويلعبون على شرائح واسعة من الجماهير ضيقة الأفق والمستعدة للشحن العاطفي وتصديق أي شيء. والتهاون الذي نشهده مع عشرات quot;الصور السياسيةquot; الانتهازية، التي تستغل المعتقدات الدينية وتوظفها للتخلص من الخصوم، وكسب النقاط. يعني ببساطة توفير مواد قابلة للاشتعال وتأجيج العنف في أية لحظة.

أمر آخر يتعلق بردود الفعل المندفعة، التي يستفزها خطاب الآخر، فتخرج عن الحكمة والعقل وتندفع في خطاب عدواني مضاد. لا نود هنا الاستطراد في quot;نظرية المؤامرةquot; التي تُدحرج من حين إلى آخر قضايا مفتعلة يقوم بها شخص أرعن هنا أو هناك، لنفاجأ بالمظاهرات المليونية تعم العالم الإسلامي كله. فأي أمة هذه التي تهدر وتثور بسبب فكرة مجنونة لشخص غير سوى، بينما لا تثور وتهدر من أجل تحقيق مكانة أسمى بين شعوب العالم، في شتى مجالات التقدم الإنساني؟!

إن إنسانيتنا، وإيماننا الحقيقي، هما رهن بعلاقتنا الروحية مع الآخر، وليس بما نردده من شعارات وإدعاءات، فالآخر هو المرآة التي تتجلى فيها حقيقة إيماننا، وإلا ما مغزى مقولة quot;الدين المعاملةquot;؟!

لا يعني تفهمنا لتلك الأمور، أننا سنقضي على بذرة العنف وجذوره نهائياً، فهو سيبقى أمراً محتملاً ما بقي الإنسان على وجه الأرض، لكن المقصود هو محاولة السيطرة عليه، وتفكيك العوامل المؤدية إلى تفجره واندلاعه. والأهم من ذلك تحويل الطاقة التدميرية لدى الإنسان إلى طاقة بناءة، عبر اختلاق مجالات للمنافسات تمتص العنف الزائد.

د. رضوى فرغلي / معالجة نفسية