تقول شائعة طريفة لكنها ذات دلالات عميقة منتشرة في الوسط العلمي مفادها أن البابا السابق جون بول الثاني Jean Paul 11 دعا العالم البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ Stephen Hawking لزيارة الفاتيكان وأثناء المحادثات بينهما قال البابا للعالم الفيزيائي :quot; دعنا نتفق بيننا، خذوا أنتم العلماء كل ماهو بعد البيغ بانغ Big Bang واتركوا لنا كل ما هو قبل الانفجار العظيمquot;، وهذا يشير إلى أن هناك معضلة إسمها quot; الأصل originequot; وهي القلعة الوحيدة الباقية التي تدور في رحابها حرب شعواء بين معسكري الدين والعلم منذ القرن السابع عشر وإلى يوم الناس هذا.
من الصعب إن لم نقل من المستحيل على العالم أن يشرح الكون عبر بوابة التدخل الإلهي، كما من الصعب بل من المستحيل على رجل الدين أن يقطع الله عن العالم يفصله عن مخلوقاته، وقد جسد العالم الرياضي والفيزيائي الفلكي ورجل الدين الراهب جورج لوميتر Georges Lemaitre هذا التناقض في شخصه، ولكن ما يحسب له أنه كان واضحاً في طرحه إزاء الفصل التام بين العلم والدين وطروحاتهما المتناقضة أو مقارباتهما المتباينة، بشأن الكون ونشأته وقد أوجز ذلك في كتابه الصادر سنة 1946 تحت عنوان quot; فرضية الذرة البدائية Lrsquo;hypothegrave;se de Lrsquo;atome primitif حيث فصل بوضوح بين الفيزياء physique والميتافيزياء أو الميتافيزيقيا meacute;taphysique أي ما فوق أو ماوراء الطبيعة لأن التحدث عن بداية للكون، مهما كانت علمية سوف تقود حتماً إلى صيغة عملية الخلق الرباني.
في بداية ثلاثينات القرن الماضي القرن العشرين كانت النقاشات الفلكية وعلم الأكوان cosmologie حادة ومكثفة جداً. أفرزت فكرتين رئيسيتين : الأولى تقول أن الكون المرئي بمجمله بات موضوعاً علمياً objet de science، والثانية تقول بأنه لا يمكن وجود علم كوني cosmologie بدون نظرية موازية عن نشوء الكون وعلم تكون الأجرام السماوية cosmogonie، أي بمعنى آخر لا يمكن مقاربة الكون المرئي علمياً بدون طرح التساؤل حول الفرادة البدئية أو التأسيسية la singulariteacute; initiale ووفق المقولة الأولى حدثت ثورة عارمة حقيقية في الأذهان وأنماط التفكير، إذ بظهور نظرية النسبية العامة la theacute;orie de la relativiteacute; geacute;neacute;rale لاينشتين Einstein بات من الممكن اقتحام مجاهل الكون المرئي وأصبح هذا الأخير خاضعاً للحسابات العلمية والتعبير عنه بالمعدلات الرياضية وقابلاً للرصد والمراقبة والمشاهدات الفلكية. أما المقولة الثانية فقد استندت إلى تطور الفيزياء الكوانتية أو الكمية la physique quantique التي مكنت العلماء من العمل بالطرق التجريبية حول الإمكانية العملية العلمية والمادية الملموسة لبداية الكون المرئي حيث أتاح علم الكونيات science cosmologique في تلك الفترة إمكانية سرد قصة الكون المرئي من وجهة نظر علمية بحتة. صار الناس يفكرون علمياً بالكون حتى قادهم ذلك بالضرورة للتحدث عن تطور الكون منذ الأصل quot; origine quot; الأمر الذي أوجد صعوبة جديدة أمام العلماء والفلاسفة على حد سواء وبالطبع لم يستثن رجال الدين.
عندما نشر آينشتين Einstein مقاله الشهير عن الكون سنة 1917 حاول بذكاء منقطع النظير أن يتفادى معضلة أصل وبداية الكون فأضاف بشكل مصطنع وعن قصد أيديولوجي مسبق ما عرف بـ quot; الثابت الكوني constante cosmologique الذي يجعل الكون من الناحية النظرية أبدياً أو خالداً وموجود منذ الأزل quot; eacute;ternel quot; ولكن سرعان ماانهارت هذه المسلمة الفكرية المصطنعة التي ساهمت ولفترة طويلة بتجنب الصراع الفكري بين الطرح الديني والطرح العلمي لمفهوم البداية والأصل. بيد أن الأبحاث العلمية التي قام بها الراهب ورجل الدين والعالم الفيزيائي جورج لوميتر Georges lemaitre بين 1927 و 1933 دفعت إلى مقدمة المشهد الفكري والثقافي حيثيات علم الكون cosmologie وعلم نشوء الكون وأجرامه السماوية cosmogonie مما أرغم رجال العلم ورجال الكنيسة على مواجهة المشكلة المطروحة المتعلقة بالأصل والمصير، كل من زاويته وبأدواته النظرية بغية الإقناع. ففكرة البداية commencement العلمية أو التكوين genegrave;se حسب المصطلح الديني، أصبحت العمود الفقري أو المحور الذي تدور حوله الأبحاث العلمية وكافة التأملات بشأن الكون المرئي وتحددت الإشكالية بطريقة الطرح والمعالجة لموضوعة quot; الأصلquot;. فلقد ربطت نظرة النسبية العامة بين المادة matiegrave;re والزمن le temps والمكان lrsquo;espace ولم يعد ممكناً الحديث عن بداية للعالم المادي monde mateacute;riel بدون طرح السؤال بشأن البداية الزمنية والمكانية لهذا العالم. وبذلك تحولت قضية الأصل إلى مسألة مطلقة absolue وقد ورد أغلب ما تعرضنا له أعلاه بوضوح وصراحة مدهشة في أبحاث لوميتر العلمية والفلسفية حيث تحدث عن التبعات والتداعيات الفلسفية لمفهوم quot; الفرادة البدئية أو التأسيسية singulariteacute; initiale الذي اقترحه لوميتر في أطروحته ونموذجه عن الكون في كتابه المعنون quot; فرضية الذرة البدائية Lrsquo;hypothegrave;se de la lrsquo;Atome primitif حيث يعتقد لوميتر أن نظريته موجودة خارج حدود التساؤلات الميتافيزيقية والدينية رغم كونه رجل دين مؤمن إذ يعتقد أنه يمكن للفكر المادي أن ينكر وجود كائن متسامي ومتعالي eacute;tre transcendant يكون فوق الوجود المادي وخارج عن مدى المعرفة الإنسانية. فلا يمكن لأية تفسيرات للمعطيات العلمية، التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، أن تكون مطلقة وقاطعة لأن الفرادة البدئية التأسيسية الأولية غير قابلة للكشف والاختبار من ناحية المعارف البشرية المحدودة ما يعني في نفس الوقت فتح المجال على مصراعيه أمام أية فرضيات ميتافيزيقية، سواء أكانت دينية أو وضعية. بعبارة أخرى أن العلم لم يستسلم أمام الكون أو ييأس أمام غموضه فيما عدا ما يتعلق بمسألة الأصل، حيث لم تعد سوى مسألة وقت قد يطول ولكن في النهاية سوف يحسم العلم هذه القضية بشكل أو بآخر، وفي نفس الوقت لن يتمكن أي دين أو معتقد أو إيمان من أن يستند إلى الكون المرئي quot; ولا حتى لنقطة البدايةquot;، لأثبات صحة الأطروحة الدينية أو تبريرها. من هنا أصبح الكون المرئي القابل للرصد والمراقبة من احتكار العلم وحده ولم يسمح بأية مقاربة بين الله والكون إلا أن النقد والشكوك والهجمات المتبادلة استمرت على نفس الوتيرة بين رجل العلم ورجل الدين دون أن يصل ذلك إلى حدود الحرب بل مجرد معارك متناثرة وعلى فترات زمنية متفاوتة حسب المناخ الفكري السائد ونوع السلطة السياسية وميولها. فعندما تحدث جورج لوميتر عن فرضيته عن الذرة البدائية قاطعه آينشتين بحدة وصرامة قائلاً quot; لا ليس هذه لأنها توحي كثيراً وتذكر بمفهوم الخلق الرباني creacute;ation quot; كما أورد لوميتر نفسه هذه المحادثة بينه وبين آينشتين وردة فعل آينشتين الحادة المعبرة عن حساسيته المفرطة تجاه كل ما هو ديني وهو ما شعر به عند سماعه لوميتر يتلو عليه نظرية الذرة البدائية وذلك في لقاء جمعهما في باسادينا pasadena في أواسط سنوات العشرينات من القرن المنصرم. مما لا مناحة منه القول إن الإشكاليات والمشاحنات الميتافيزيقية بين أنصار العالم الأبدي الثابت من جهة ومن يدافعون عن فكرة quot; الأصلquot; من جهة أخرى، قد أثارت الاضطراب في النقاشات الكونية أو الكوزمولوجية العلمية حتى نهاية سنوات الستينات من القرن العشرين. فالمفهوم الأكثر إثارة للاعتراض والتبرم هو مفهوم الخلق الفوري المباشر بإرادة ربانية وبطريقة إعجازية خارقة لقوانين الطبيعة المكتشفة علمياً وهو الأمر الذي حاربه العلماء ومن بينهم آينشتين نفسه. وكان من بين أشد المنتقدين لأطروحة جورج لوميتر، الذي يعتبر الأب الروحي لنظرية الانفجار العظيم البيغ بانغ، هو العالم الفلكي الانجليزي الشهير فريد هويل Fred Hoyle الذي كان يصف لوميتر برجل البيغ بانغ، وهو من مؤيدي فكرة ثبات الكون وأزليته وبقائه على حاله إلى الأبد. وبهذه المناسبة يجدر بنا التذكير بأن الفريد هويل كان يسخر من فكرة الأصل والبداية منذ سنوات الأربعينات حيث وصف هذه الفكرة ساخراً في برنامج إذاعي بأنها تجعل الكون يولد من انفجار عظيم بيغ بانغ Big Bang وبلهجة السخرية والاستهزاء لكن هذا التعبير غير العلمي أصبح فيما بعد بمثابة الصفة الرسمية التي عرفت بها نظرية الأصل للكون وانتشرت كالنار في الهشيم وصارت هي الرديف والدال على نظرية بداية الكون المرئي. من ثم امتزج علم نشوء الكون والأجرام السماوية cosmogonie بعلم الكونيات cosmologie حسب تعبير الفيلسوف جاك ميرلوبونتي jacques merleau ponty عندما صرح قائلاً quot; إن مفهوم الخلق الذي نساه الفلاسفة المعاصرون ونسته فلسفة الطبيعة منذ زمن طويل يعود للبروز من جديد في أفكار وكتابات علماء الكونيات les cosmologistes. يجدر بنا التنويه أننا عندما نذكر أو نستند إلى مواقف علماء scientifiques يتحدثون عن الأصل والبداية فهذا لا يعني على الإطلاق أنهم يقصدون فعلاً إلهياً خارقاً وإنما فقط الإشارة إلى بداية معلومة بالوسائل العلمية المتاحة لكل شيء مادي ملموس بما فيه الكون المرئي ومحتوياته المكتشفة لحد الآن وعلينا ألا ننسى أن المادة في الكون المرئي لا تتجاوز نسبتها 4% فقط من مكونات الكون المرئي وأن 96% من المحتويات مجهول الماهية، خاصة الطاقة السوداء أو المعتمة والمادة السوداء أو الداكنة eacute;nergie noire et matiegrave;re noire ou sombre المفترضتين من جهة أخرى يتحدث رجال الدين عن عملية الخلق بالمعنى الجوهري المعتمدة كلياً من الألف إلى الياء على الله المطلق، فبدون الله لا يمكن لأي وجود أن يوجد، إلا أن البعض من رجال الدين المعتدلين والمرنين صرح أنه حتى لو كانت النظرية العلمية صحيحة فإننا يمكن أن نعتبر أن الله هو الذي يقف وراء عملية الانفجار العظيم، ثم ترك الكون يستمر في الوجود بصورة مستقلة ظاهرياً منذ لحظة البداية وليس قبلها، وذلك بالاستناد إلى قوانينه الجوهرية التي تسيره والتي وضعها الله له لكي يعيش ويتطور وفق المنهج العلمي. ولكن هل العلم بحاجة إلى الله؟ رد العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغ stephen Hawking بالنفي بعد أن غير رأيه الذي كان يجهر به قبل ثلاثة عقود عندما أعلن في كتابه الجديد التصميم العظيم the grand design الصادر في أيلول سبتمبر 2010 مشيراً إلى أن الله ليس ضرورياً في ظهور الكون للوجود بل يعود سبب وجوده إلى قوانين الكون الجوهرية وأهمها قانون الثقالة أو الجاذبية La graviteacute; فبفضل هذه الأخيرة أي الجاذبية يمكن للكون أن يخلق نفسه بنفسه انطلاقاً من لاشيء، فالخلق العفوي أو الذاتي spontaneacute;e هو السبب في وجود شيء ما بدلا من لا شيء، ولذا فالكون موجود ونحن موجودون وليس ضرورياً اللجوء إلى إله خارج الكون، مهما كان شكله وحجمه، ليقوم بعملية القدح وإطلاق الشرارة لخلق الكون.
وهذا الموقف يشاطره فيه العديد من العلماء المشهورين والفلاسفة الوضعيين المحدثين من بينهم عالم الأحياء biologiste هو ريشارد داوكينز Richard Dawkins الذي قال في كتابه الصادر سنة 2006 بعنوان quot; لننتهي من الله مرة وإلى الأبد pour en finir avec Dieu quot; بما أن العقول الواعية الذكية والمبدعة، من نتاجات التطور eacute;volution، ظهرت مؤخراً في الكون المرئي، فلا يمكننا أن نعزي أو ننسب لها عملية خلقه ومع ذلك وبهذا المعنى يبدو الله مجرد وهم quot;. أما العالم الفيزيائي ستيفن وينبيرغ steven Weinberg فقد ذكر بهذا الصدد في كتابه quot; حلم النظرية الأخيرة أو النهائية le recirc;ve drsquo;une theacute;orie Ultime الصادر سنة 1997 quot; البعض يكون فكرة عن الله من السعة والمرونة بمكان تجعل من الحتمي أنهم يعثرون عليه في كل مكان وفي كل شيء أينما يبحثون، فنحن نسمع من يقول الله هو العلي الكلي، الأول و النهائي أو الأخير Ultime أو أن الله هو كل ماهو أفضل فينا أو الله هو الكون وغير ذلك، ومن هنا بالطبع يمكننا القول أن الله هو كل ذلك وأكثر منه وهو كلمة كباقي الكلمات يمكننا أن نضفي عليها المعنى الذي نريده، فإذا قلنا أن الله هو الطاقة، على سبيل المثال، فهذا يعني أننا يمكن أن نعثر عليه في قطعة كاربون quot;.
د. جواد بشارة باريس
[email protected]
التعليقات