تكاد المصادر العديدة التي ترسل تقاريرها عن العراق تملئ العالم العربي والأسلامي والغربي، بالأضافة الى مصادر رسمية دبلوماسية وتقارير سفارات مُسربة من الأنترنت وتصريحات مسؤولين ومؤرخين وباحثين وخبراء وأكاديميات عسكرية ومدنية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط ومايلوح من خارطته السياسية في المستقبل.

الأمر الذي لايقبل الشك بين العراقيين (عموماً ) هو المعنى الحقيقي للهوية العراقية المرتبط أساساً بالدولة العراقية،التي هي في محتواها ومضمونها ( لاكردية ولا عربية ). فهل هي تعني بما لايقبل الجدل أرض الرافدين كما هي؟ وهل تعني أيضاً، رفضاً شعبياً ودستورياً لكل من يُطالب بتوسيع قاعدة التجزئة الأقليمية القومية على حساب الدولة العراقية؟.

بداية، ليس من واجبي تقديم الأعذار للقراء العرب أو الأكراد الذين شاركوا في كتابة تعليقات متنافرة تسخر من أراء بعضهم البعض رغم أستنكاري لها. لقد كان هدفي الأساسي من المقال الذي نشرته أيلاف مشكورة quot; البرزاني وتجاوز حدود العراق السياسية quot; هو نقد نجاح التجربة الكردية تحت ظل الدولة الفدرالية، ونقد مضمون كلمة السيد البرزاني بعد أنتخابه رئيساً للحزب الديمقراطي الكردستاني مؤخراً وتصريحه الذي تضمن شرطاً ( ان برلمان كردستان قد اتخذ قرارا يقضي ببقاء كردستان ضمن العراق شرط ان يكون عراقاً ديمقراطياً وفيدرالياً ونحن ملتزمون بهذا القرار). والجزء الأخر من تصريحه ( ان قرار حق تقرير مصير الشعب الكردي حق طبيعي وشرعي للاكراد كأي شعب آخر على وجه الأرض) وهو أمرُُ لاينكره أِلا الذين وصلوا دفة السلطة السياسية وصموا أفواههم وصفقوا للأرهاب والدكتاتورية. فماهي مبررات هذا التصريح للصحافة في هذا الوقت العصيب من عمر الجمهورية الفتية.

لقد ظهر في تاريخ العراق الحديث أشخاصأً قرروا في مؤتمرات حزبية داخلية ( مؤتمرات حزب البعث العشائري - القطر العراقي ) مصير حزب وشعب ودولة، وداسوا بالأقدام مصير قومياتهم وشعبهم وتركوا مُخلفات ودمار فاقت مخلفات الأستعمار الحديث والهيمنة الغربية الأستعمارية القديمة وحاولوا تغيير الجغرافية السياسية للمنطقة دون أعتبارات المساحة السكانية للقوميات والوسط والبيئة الأجتماعية، وحلت لعنة التاريخ والانسانية على مخططاتهم الأثمة التي ضيقت من تقدمنا الفكري وحرقت الجسور الثقافية والعلمية وتأخي قومياتنا التاريخي. ولانريد من أحد أشغالنا بأغراءات مماثلة نُزيدَ من مساحة التطرف السياسي والفكري العراقي حالياً، والتي قد تجر سكان المنطقة من جديد الى أقتتال وحروب بعد خروجنا من حلقاتها الدموية بصعوبة.

تقرير المصيرلايحتاج الى بالونات تُنفخ وتُقرر في مؤتمرات حزبية داخلية بعد سقوط أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم عام 2003 وما بعده من مشاركة عرب العراق وأكراده وقومياته الأخرى، في الحكومة الاتحادية وحكومات الأقليم من خلال الاستحقاقات الانتخابية، رغم ضعف الأدارات الحالية والأزمات الماثلة التي يشيب لها الرأس( قلة الخدمات، ومحاربة الفساد الأداري، السرقات والرشوة ).

فلنفهم أولآً، أن عرب العراق وأكراده ربطوا مصيرهم ومستقبلهم مع بعضهم و قرروا هذا المصير بشجاعة وأزالوا بدماء أبنائهم أصنام من أستهتر بقومياتهم وتأخيهم التاريخي وتحرروا من العبودية والذل العنصري وحرب الأبادة الجماعية رغم دعوات ومراهنات أقليمية وغربية وأشاراتها الى أن التجربة الديمقراطية الحالية لن يُكتبَ لها النجاح.

ومايَمثُلُ للوجود اليوم، وبشكل مشوه، نغمة أثارة المشاعر برفع أسهم الرغبات القومية وتقرير المصير، التي هي أصلاً رغبات مشروعة وأصيلة وتكفلها كل التعاليم السماوية وألأرضية، كما أن التعاطف السياسي الوجداني معها ليس أنسانياً فقط وأنما هو خُلقي بكل تأكيد. والتوعية الفكرية مطلوبة الآن (أكثر من أي وقت مضى) لتجنب خطورة القطيعة القومية وتجنب خلق أزمة قوميات قد لايُحمد عقباها لو تم أنفصال الأقليم الكردي عن جسد العراق.

أعيدُ للذاكرة ماقاله المفكر القومي السوري أنطون سعادة زعيم حركة القوميين العرب الذي أنضوى في حركته السياسية الوطنية العرب والاكراد والتركمان والدروز والمسيحيون quot; كُلنا مسلمون لرب العالمين، فمنا من أسلمَ لله بالأنجيل ومنا من أسلمَ لله بالقرآن ومنا من أسلمَ لله بالحكمة، وليس لنا من عدو يُقاتلنا في أرضِنا ودينِنا أِلا اليهودquot;. أنها أضافات تثقيفية جوهرية لشعوبنا المقهورة كي لاتعيش الطبقات القومية الحرة في أوهام أو تحت تأثير عبادة الأشخاص و تأليههم دون محاسبة أو معرفة.

أن التقاليد الديمقراطية التي أُدخلت مع نظام المشاركة في السلطة تحمي القوميات ومصيرها ويقرها دستور الدولة الذي وضعه الأكراد و العرب بعد سقوط الدكتاتورية ومسؤولية قادة العراق أن يكتشفوا أخطائهم ويقوموا بتصحيحها قبل وقوع الضرر وذلك بالأصغاء الى نبض الشارع العراقي من شماله الى جنوبه والتعرف على طموحه وآماله.
جهاد دلباك مثقف وفنان الكردي علق عن الموضوع قائلاً (بأن الظروف الراهنة في العراق والمنطقة، وكذلك في المجتمع الدولي لا تسمح على الإطلاق بوجود دولة كردية في المنطقة، رغم أن الجميع يقرون بمدى الانتهاكات التي تعرض لها الشعب الكردي على يد الحكومات العراقية السابقة وحكومة صدام حسين على وجه التحديد. وأضاف أن دعوة البرزاني لم تأتِ من فراغ، بل جاءت لكي تؤسس لحالة قد تتحقق في المستقبل، خصوصاً أنه لم يدع إلى الانفصال عن العراق، إنما دعا الشعب الكردي إلى اختيار الطريقة التي تناسبه في تقرير مصيره وقد يقوم هذا الشعب باختيار الدولة الكردية المستقلة أو يختار البقاء في الدولة العراقية الفيدرالية. وأكد أن حق تقرير المصير حق مكفول من قبل المنظمات الدولية المختلفة، لذلك أرى أن من حق الشعب الكردي أن يختار ما يريد، لكني متأكد أن الأكراد لن يختاروا الانفصال عن العراق، لأنهم يعرفون أن المناخ الإقليمي والدولي لا يسمح لهم بذلك وهم عبر هذا الخيار سيحققون الكثير من المنجزات، لأن إقليم كردستان شهد طفرات اقتصادية وعمرانية كبيرة من خلال اختياره النظام الفيدرالي ضمن العراق الموحد.)

هذا في رأيي هو عين الصواب والصدق وتعرفه القيادات الكردية المثقفة للحزب الديمقراطي الكردستاني أذا ماأستطعنا بالطرق المتحضرة ربط الجسور الثقافية والتجارية والأقتصادية والعلمية والتكنولوجية بين شعبنا وتضميد جروحنا بعد أن تَعرضنا جميعاً لنزعات شعوبية ومقابر جماعية وحملات أِبادة أغرقتنا في دماء سالت من شمال العراق الى جنوبه ومازالت ماثلة للعيان.

ويحمل القاموس السياسي صفحات تُمّيز بين التطلعات القومية وأحقية تقرير المصير، التي هي في معظم الحالات، أساسأً للخروج من حلقة الأستبداد والعنصرية والظلم الأجتماعي والفقر، وبين طموح الأنفصال التام عن جسم الدولة لأفتقاد التلاحم والتعايش وطمس حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية وسحق تراثهم وهويتهم الوطنية وتعطيل النظم الدستورية التي تحمي وتكفل للقوميات العرقية حقوقها الكاملة ويجنبها حملات الابادة الجماعية و الأضطهاد والتعسف والأهانة والهجرة. لذلك يُعتقَد نظرياً أن الحركة القومية الكردية القائدة لاتبحث عن وطن قومي بقدر ماتبحث عن وفاق قومي.

وتنتاب معظم الناس الحيرة عندما يخلط بعض ساسة المنطقة العربية بين اللغة والدين عند الحديث عن الحقوق القومية. فأسرائيل مثلاً، تضم قوميات أثنية مختلفة أوروبية وعربية، أشكنازية والسفردم، بل حتى (الفلاشه من ذوي الأصول الأفريقية)، ولاتستطيع هذه القوميات المنصهرة تحت العلم الأسرائيلي أن تطالب بحق تقرير المصير أو الخروج عن جسم الدولة بحجج الأصل القومي.

كما تبرز الحقيقة التاريخية التي مفادها أنه لاتوجد ضمانة بأن الحقوق القومية تُضمَنُ بالأنفصال عن الدولة الأم دون قتال وهيجان قوميات أخرى. أما من سيحمي الدولة الأنفصالية الناشئة التي تقتطع لنفسها كياناً سياسياً يتجاوز حدودها الحدود الاقليمية للدولة الأم وكيف ستحصل على الأعتراف الأقليمي والدولي؟؟ فهذه أسئلة لايستطيع منجموا ومنظروا السياسة أو أي محلل سياسي وضعها في قالب ثابت ومعرفة ما قد يطرأ من ردود فعل لمصالح دول متضاربة لاتُعرَف تصرفاتها أِلا في حينها.

وفي وقت يبقى العراق في حالة مبهمة ومؤسساته في حالة فوضى أدارية وقادته يتنازعون المناصب القيادية ذات الطبيعة الحزبية الطائفية والمذهبية والقومية، وتبقى أيضاً مخاوف تركيا من منح نوع جديد من ألادارة الذاتية للأكراد، فأن قناعات قومية كردية ترى أن الوقت مناسب لأتخاذ خطوات لاتتطابق( عند مقارنتها ) مع فقرات الدستور العراقي والقرارات والتشريعات التي شارك بصياغتها عرب العراق وأكراده، أِلا أذا كانت هذه النصوص تخص تقرير المَسِير وليس تقرير المصير.

باحث سياسي وأستاذ جامعي
المصادر: After Iraq، Anarchy amp; Renewal in the Middle East. Gwynne Dyer
CIA World Factbook، in 2008، Kurdish in Turkey.