المفاهيم العامة التي تفرقت في القرآن الكريم تدعو جميعها إلى تكامل الإنسان ابتداءً من المنهج التربوي وانتهاءً بالبيان الملازم للآخرة وما يحدث فيها من الأهوال أو ما يقابل ذلك من النعيم، إلا أن المراحل المهمة التي تأخذ المساحة الأكبر تجعل الامتداد التأريخي يتكفل في مسيرة الإنسان بكل ما أتى به الأنبياء من خلال فتراتهم المتعاقبة التي سبقت عصر التنزيل، ولهذا فإن الله تعالى قد جعل التعاليم لا تنفك عن حقيقة الشرائع السابقة على الرغم من العقد والابتعاد المعنوي بين اتباع تلك الشرائع باعتبارها غاية واحدة وإن اختلفت الوسائل الموصلة إليها.

ومن هنا كان مبعث الأنبياء يسير ضمن التكامل الذي يكتب للإنسان أسباب تواجده على هذه الأرض، ثم بعد ذلك يأخذ بيديه إلى النعيم الأبدي، أما التفرق الذي حدث بين العلماء في تلك الشرائع فهذا لا يعد من الغرابة، إذا ما نظرنا إلى أقرانهم في هذه الأمة، وكيف أصبح بعضهم يجانب البعض الآخر بسبب الطائفية والمذهبية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ما جعل الجهل والتخلف يتحكمان في أتباع من يتبنى مختلف الأفكار الناتجة من العلماء أو ما يسمى بذلك، حتى أصبح الدفاع عن المذهبية أقرب إلى أصحابه من الاهتمام بالمنهج الذي أنزله الله تعالى على لسان نبيه quot;صلى الله عليه وسلمquot; وهذا ما يجعل الأمر جلياً من أن المذاهب هي من صنع الناس أنفسهم.

وعند البحث عن الحقيقة نجد أن القوانين والنظم التي وضعها الله تعالى تشير جميعها إلى اتجاه واحد وهو خدمة الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى الجهة التي ينتمي إليها، اللهم إلا الانتماء الذي يُخرجه عن معرفة التوحيد الذي جاء على لسان الرسل quot;عليهم السلامquot;، وهذا ما نجده في دعوة القرآن الكريم إلى لغة الحوار بين جميع أتباع الشرائع، كما بين تعالى ذلك في قوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران 64. من هنا نفهم أن التوحيد هو الجامع الرئيس بين المسلمين وأهل الكتاب، وقد بين تعالى هذا النهج في كثير من الآيات التي تدعو إلى الاتحاد المتأصل بين العلاقات التي يؤطرها هذا الجامع، كما في قوله تعالى: (غلبت الروم***في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون***في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون***بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) الروم 2-5.

وبناءً على ما مر يظهر أن الغرض الأسمى من إرسال الرسل يجب أن ترد نتائجه إلى الإنسان، لأجل أن تسير الحياة ضمن المنهج الذي قضى به الله تعالى في قوله: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. ولما كانت البشرية في نزاع لا تنفك لوازمه فمن الطبيعي أن يوجه هذا النزاع ليشتمل على الطاعة المجسدة له من جهة واخضاعه للقوانين التي تمهد صيرورته من جهة أخرى، وهذا ما جعل التفاضل بين الرسل يتفق مع الجانب الذي يقتضيه العمل المتكامل في دعوتهم التي تختلف حيثياتها باختلاف الأماكن والنزعات المتطرفة بين الأقوام المرسل إليهم، ومن هنا كان التخصيص ببعض الصفات لبعضهم، وكذا في رفعها عن البعض الآخر، وهذا الأمر يجري في جميع الاتجاهات التي تنتهجها الأقوام الذين يحتاجون إلى الريادة أو القيادة التي تأخذ امتدادها من التعاليم التي وصلت إليهم عن طريق الأنبياء سواء في زمن تواجدهم أو ما بعد المرحلة التي يطلق عليها بـ quot;الفترةquot;. وقد بين تعالى هذا التخصيص في قوله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) البقرة 253. وكذا قوله: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) الإسراء 55. فالتفضيل المشار إليه في الآيتين يعد من المقررات التي حملتها الرسالات قياساً إلى ما يقتضيه الحال الذي يقوم على متطلبات الأقوام المبعوث لهم.

ومن هنا كان سبب إنزال الكتب أقرب إلى بعث روح اليقين لدى الناس مما يجعلهم يؤمنون بالله تعالى وبالأنبياء واليوم الآخر، وما يلحق ذلك من متطلبات العقيدة لأن الرسالات يكمل بعضها بعضاً، وصولاً إلى الرسالة الخاتمة التي بين تعالى فيها صراحة الدعوة إلى الإيمان بجميع الرسل والرسالات التي سبقت عصر التنزيل، علماً أن هذه الظاهرة كانت مستطردة في جميع الشرائع إلا أن تأكيد القرآن الكريم لها أضفى عليها الشرعية العامة التي ينبغي الامتثال لها سواء من أهل الكتاب أو الأميين، ولهذا قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة 285. وكذا قوله: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) آل عمران 84. فإن قيل: كيف يأمرنا الله تعالى بطاعة الأنبياء وعدم التفريق بينهم وهناك آيات ذكرت التفاضل كما أشرت؟ أقول: أسباب التفاضل ترد إلى الله تعالى دون الإنسان وقد بين سبحانه هذا الأمر بقوله: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران 33. ولم يكن هذا التفاضل عبثاً بل كان برحمة من الله تعالى نتيجة ما سلف من أعمالهم، كما في قوله: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف 31. ثم قال: (أهم يقسمون رحمة ربك) الزخرف 32.

من هنا يظهر أن الغرض الرئيس للدعوة وإرسال الرسل لا يراد منه إلا هداية الناس إلى ما فيه صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، ولا يتحقق هذا إلا باعترافهم بوحدانية الله تعالى، كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء 25. وبناءً على هذه النتائج تظهر الصفة الرابعة من صفات المتقين التي أشار لها تعالى في قوله: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) البقرة 4. فإن قيل: ما ذكر في الآية الرابعة يعد من علم الغيب الذي ذكر في الآية الثالثة فلم التكرار؟ أقول هذا من باب عطف المفصل على المجمل وذلك لأهمية التفاصيل اللاحقة، وأنت خبير من أن الادراكات المتوسطة لا يمكنها أن تحيط بجميع الأشياء، ولهذا عدل القرآن الكريم إلى التفصيل.

قوله تعالى: (أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون) البقرة 5. هذه الآية بمنزلة النتيجة للمتقين وفيها ما يدل على التعريض بالكافرين الذين سيأتي ذكرهم بعد هذه الآية، وهذا ظاهر في تكرار quot;أولئكquot; وفي الاستعلاء الذي يقرر تمكنهم من الهدى، إضافة إلى قوله quot;من ربهمquot; كل هذا يبين الاهتمام بأمرهم، وصولاً إلى ضمير الحصر الذي أضاف لهم صفة الفلاح دون غيرهم. فإن قيل: كيف يمكن أن نفهم أنك تشير إلى الآيتين الرابعة والخامسة من خلال العنوان؟ أقول: يمكن التوصل إلى ذلك بواسطة القرينة العقلية، كما في قوله تعالى: (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) ص 32. حيث أن التواري بالحجاب يتضمن الشمس وإن لم يكن لها ذكر، باعتبار أن بعض الألفاظ تحمل ألفاظاً أخرى، كما في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) الأنبياء 78. والنفش هو التفرق في الليل وإن لم يكن له ذكر في الآية، وهذا كالإسراء الذي يراد منه السير ليلاً دون النهار، كما في قول المتنبي:

أتوك يجرون الحديد كأنهم......سروا بجياد ما لهن قوائم

فإن قيل: ما ذكرت صحيح إلا أن القرآن الكريم أتى بقرينة الليل، في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) الإسراء 1. أقول: ذكر الليل هنا بصيغة النكرة يدل على التبعيض، أي أن الإسراء قد تم في جزء من الليل، فيكون التقدير quot;سبحان الذي أسرى بعبده من الليلquot; وبهذا يظهر سبب التكرار الذي ورد في قوله تعالى: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) هود 81. الحجر 65.


* من كتابنا: القادم على غير مثال


[email protected]