الحالة الحركية للسياسة الداخلية العراقية في ظل ظروف الإحتلال الأمريكي وتسارع الوقت لتبديل و تغيير صورته الحالية عبر إنسحاب عسكري تكتيكي في أواخر عام 2011، ستظل في حالة نشاط و تفاعل داخلي مستمرة خصوصا و أن أجندات الصراع الدولي و الإقليمي على العراق لم تزل تتواصل بخطى حثيثة بين ترتيبات واضحة لأهل الأحزاب الطائفية التي تريد تهيئة المواقع لتأسيس دولة دينية طائفية في العراق من خلال العملية الديمقراطية تكون نموذجا عصريا مشابها للدولة النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، و بين توجهات وطنية أخرى لم تتضح للأسف معالمها بعد في ضوء حالة التقزم و التراجع الواضحة التي تعانيها الحركة الوطنية العراقية التقليدية المعروفة أي الأحزاب الديمقراطية والقومية واليسارية التي تراجع تأثيرها الداخلي وعلى المشهد العام بشكل مروع يتحمل الإحتلال ألأمريكي مسؤوليته الجسيمة بشكل واضح، فالإحتلال ينسق كل المواقف و الترتيبات مع قادة الأحزاب و الجماعات التي كانت مسؤولة ذات يوم عن كل أعمال الإرهاب الدولي، و الإحتلال الأمريكي هو الذي يسبغ الحماية والرعاية لتلكم الأحزاب التي وصلت أحوالها عشية إحتلال العراق لأسوا حال بعد أن إنقسمت و تشتت و أوشكت على الإندثار والإضمحلال لولا الرعاية الأمريكية المباشرة التي أحيت الموات و نفخت في جثث تلك الأحزاب التي كانت ميتة سريريا، مع الجهود الواضحة و المتعاونة التي بذلها النظام الإيراني من أجل تحقيق الأهداف القديمة التي إندثرت قبل أن تتكفل تطورات السياسة الدولية بتغيير الصورة بالكامل ونفض الغبار عن ملفاتها المهملة و المنسية، لتكون الأحزاب الدينية والطائفية في العراق اليوم الخطر الحقيقي و ألأكبر على الوحدة الوطنية في العراق وعلى شكل و مستقبل الخارطة الجيوسياسية للعراق.

وأعتقد أن بصمات تلكم الأحزاب الكارثية ميدانيا باتت واضحة اليوم في العديد من النهايات لبعض الملفات و منها ملف الحريات العامة و التحرر الإجتماعي و النهوض الفكري و الحضاري، ووسط شبح الدولة الدينية الطائفية العليلة تدور القوى الوطنية في حلقات مفرغة وتائهة، خصوصا و أن من يتمسك بالسلطة في العراق يحلو له المقام و يضع مختلف اليل و الوسائل من أجل الإستمرار و بناء القلاع الحصينة، ففي الماضي القريب تمكن البعثيون إعتبارا من نهاية عام 1978 في عزل كل القوى الوطنية ومحوها من الوجود و الإنقلاب على صيغة العمل الجبهوي مع الشيوعيين رغم أن الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر كان يقول ( نريدها جبهة وطنية راسخة لا أن تقوم اليوم و تنفصم غدا )!! فإذا نهايات عهده بالذات قد حملت نهاية تلك الجبهة الوطنية القاصرة أصلا لينفرد التيار البعثي الذي كان يقوده الرئيس السابق صدام حسين بالسلطة في العراق في تموز/يوليو 1979 عبر إنقلاب دموي داخلي ضد سلطة حزب البعث ذاته أطاح برؤوس العديد من قياديي الصفوف الأولى والثانية في الحزب وحتى على مستوى القيادة القومية ليشكل البعثيون دولتهم القمعية التي دخلت في أتون الصراعات الإقليمية والملفات السرية و الغامضة لتبدأ مرحلة الحروب و الغزوات ومن ثم الإنكسارات و الهزائم و النكبات التي توجت بجريمة قومية مروعة هي غزو و إجتياح دولة الكويت و تشريد شعبها وفرض منطق وحدوي أعوج و سقيم أطاح للأسف بكل القناعات و الرؤى القومية وغيرت نتائجه الكثير من إدارة ملفات الصراع في المنطقة، وكانت النتيجة النهائية الإنحسار الكامل لإسم وسياسة حزب البعث وبروز سياسة ( صدامية ) خاصة هي مزيج من بقية شعارات بعثية مستهلكة و نزوات صوفية ومسحات دينية هائمة أسست للفكر الأصولي و الديني المتطرف السائد في عراق اليوم، فكانت ( الحملة الإيمانية الكبرى ) التي أعلنت عام 1994 النهاية الحقيقية للمشروع البعثي العلماني والبداية الفعلية لمشروع الدولة الدينية بشعاراتها الزاعقة وعنترياتها المثيرة للغثيان وقوانينها القراقوشية العجيبة، لذلك فعندما إنهارت سلطة البعث العراقي أمام دبابات الإحتلال الأمريكي وآلته العسكرية الضخمة عام 2003 فإن الإنهيار الداخلي كان قد سبق تلك المرحلة بكثير، اليوم وأزاء حالة الضياع التام في العمل الوطني أعلنت خمسة جماعات بعثية عراقية مقيمة في الشام عن إندماجها في تيار قومي بعثي جديد هو تيار ( الإنبعاث و التجديد ) والذي تكون أساسا من عدد من التيارات البعثية المختلفة في توجهاتها الفكرية و الإيديولوجية عن التيارين البعثيين الكبيرين السائدين وهما جماعة ( قيادة قطر العراق ) بقيادة عزة الدوري و نائبه أبو محمد النجدي والذي له نشاطات قوية وفاعلة في داخل العراق وخصوصا وسط جماعة جيش النقشبندية في شمال العراق ويمتلك إمكانيات لوجستية عالية للتحرك والإتصال ومنظومة العلاقات و المال وجميعها من بقايا السلطة السابقة التي لازالت تمتلك مؤسسات سرية تعمل تحت الأرض بل ومخترقة للعملية السياسية الحالية،إضافة لخصومهم من البعثيين المنشقين جماعة الرفيق محمد يونس الأحمد الذي يحظى بدعم المخابرات السورية.

والجماعات البعثية الجديدة هي جماعات صغيرة من البعثيين لها مآخذها وملاحظاتها على نظام صدام حسين الذي تعتبره قد صادر سلطة البعث عام 1979 وهي رؤية يختلف ويتخالف حولها البعثيون بفروعهم المختلفة، وهذه الجماعات هي تيار الإنبعاث القومي بقيادة خالد السامرائي، وتيار المراجعة و التوحد بقيادة عبد الخالق الشاهر والذي عين كناطق رسمي بإسم تيار الإنبعاث والتجديد، وتيار التجديد العربي بقيادة شهلب أحمد لافي وحركة التحرر الوطني بقيادة آلام السامرائي وتيار مناضلون بقيادة نبيل الدليمي... الملاحظ على هذه التيارات المؤتلفة في تحالف بعثي جديد هو إلتزامها بالصورة العاطفية والكلاسيكية القديمة لتاريخ حزب البعث أيام سنوات التأسيس وهي صورة تغيرت كثيرا بفعل آثام السلطة المطلقة، ولاندري شيئا عن الإمتدادات الجماهيرية لتلكم الجماعات ولكن جل مانعتقده هو أنها لا تعبر إلا عن قناعات عدد من البعثيين الذين هزتهم الهزيمة الكبرى التي أحاقت بالبعث ودوره الهائل في تمزيق العراق و تكسيحه، فما زال للقيادات البعثية السابقة دور في قيادة البعثيين في داخل العراق وما زالت رؤاها تقليدية وقديمة تقدس القيادة القديمة وتنزهها عن الأخطاء بل الكوارث وتعتبر نفسها ضحية رغم أنها الجاني الحقيقي، لا نعلم شيئا عن قدرة البعثيين الجدد على تطهير أنفسهم من آثام الماضي ومن إمكانياتهم الفعلية على إدانة سلوكيات نظام البعث لأنهم يتحركون في وسط عقائدي جامد و متخشب لا يسمح بأية مرونة فكرية حقيقية أو بهامش للتفكير الحقيقي و المستقل أو المحايد... هل سيكون التشكيل البعثي الجديد مجرد فرقعة مؤقتة وبالون هوائي ستتقاذفه رياح الإستقطاب الحادة في المنطقة؟ أم أنه تشكيل بعثي جديد منبثق من رحم الأزمة و المصيبة يحاول إصلاح الخلل ويمد يد المصالحة مع الذات و الشعب و التاريخ عبر فضيلة الإعتراف بالذنب؟... لا شيء واضح سوى حقيقة أن ضياع القوى السياسية العراقية وتهافتها هو السمة المميزة لعراق حائر وتائه بين ماضيه المظلم وحاضرة المضطرب و مستقبله الأشد سوادا من قطع الليل المظلم.

[email protected]