يختلف العلماء في موضوع افتراق الإنسان عن الكائنات الحيوانية الأخرى، فمنهم من يظن أن الأجهزة التي هي محل الاختلاف تبدأ من السمع والبصر والفؤاد، فيما يعتقد القسم الآخر إن مرحلة الاختلاف تكمن فقط في الفؤاد أو القلب بغض النظر عن التعبير الذي يلازم المادة التي تحاكي العلل الناظرة لكل من التسميتين، وعند البحث في الاتجاهين يظهر أن القسم الأول هم من أصاب الحقيقة وإن كثر المعارضون لذلك، باعتبار أن السمع والبصر وغيرهما من الادراكات وإن كانت موجودة بالفعل لدى الكائنات الحيوانية، إلا أن النسبة التي تدخل في الفهم والتحليل لدى الطرفين تميل لصالح الإنسان، فهو يفترق عنها في جميع الصفات على الرغم من التجانس المادي الذي يوجد في كل منهما، ولذلك ذم الله تعالى الإنسان الذي لا يستطيع توجيه ادراكاته إلى الكمال بقوله: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) البقرة 171. وهذا يبين أن الأجهزة المذكورة وإن كانت تمتلكها الكائنات الحيوانية إلا أنها لا يمكن أن تساعدها على التمييز الفكري، وإنما تصح النسبة فيها للدلالات الفطرية فتأمل.

وبناءً على ما تقدم فقد يُنظر إلى عدم التكامل من خلال الحقيقة التي ذكرها تعالى في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) الأعراف 179. وبهذا يظهر الفرق في التمييز على الرغم من وجود الأجهزة لدى الطرفين كما أشرنا. فإن قيل: من الملاحظ أن الكائنات الحيوانية تستطيع أن تختار الطعام الذي يتناسب معها، وكذا الطرق التي تريد أن تسلكها؟ أقول: هذا صحيح إلا أنه يرتبط ضمن فطرتها التي لا تتخلف، وما يثبت هذا أن جميع أفراد الفصائل لا يمكن أن تفترق في اختيارها التابع للأصل، أما في الإنسان فإن الفرق لا يحتاج إلى بيان. فإن قيل: ألا يعتبر الإنسان من الكائنات الحيوانية؟ أقول: نعم يعتبر كذلك إلا أننا نتبع العرف القرآني في التعبير. وعند البحث في هذا العرف نجد أن الله تعالى قد جعل للإنسان مجموعة من الادراكات منذ ولادته، إلا أن الادراك الفكري سيكون لاحقاً للأجهزة التي تولد معه، وإن كانت هي المصدر المغذي للفكر، وإن شئت فقل هي الواسطة التي تسير من قبل الأفكار، كما في قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78. وكذا قوله: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) المؤمنون 78. والأجهزة المشار إليها في الآيتين قادرة على التمييز الذي سيكون مصدراً للجزاء.

وبهذا تكون نسبة الختم على هذه الأجهزة أقرب إلى النسبة الجزائية نظراً إلى فعل الإنسان، كما هو الحال في الجزاء الحسن المشار إليه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) الحديد 28. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) الأنفال 29. ومنه قوله تعالى في أهل الكتاب: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون) القصص 54. وبناءً على هذا فقد قابل الله تعالى هذا الجزاء بجزاء الختم على القلوب، وذلك بسبب كفر أصحابها فلا يدخل إليها شيئاً من الحق، ولا يخرج منها شيئاً من الاعتقاد الباطل، وقد كان لهذا الختم مراحل مختلفة، منها ما يتمثل في جعل الله تعالى لأصحاب هذا الاتجاه قريناً من الشياطين، يحول بينهم وبين الرجوع إلى الحق، كما في قوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين) الزخرف 36. وكذا قوله: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) الشعراء 221. ثم قال: (تنزل على كل أفاك أثيم) الشعراء 222.

ومنها ما يفهم من خلال مرحلة الطبع على القلوب، كما في قوله تعالى: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) المنافقون 3. وكذا قوله: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) الروم 59. ومنها ما يكون ضمن مرحلة الرين، كما في قوله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) سورة المطففين 14. وآخر هذه المراحل هي مرحلة الختم، كما في موضوع البحث، وكما في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله إفلا تذكرون) الجاثية 23. وهذه هي المرحلة التي تجعل القابل يمتنع عن سماع الحق أو ابصاره وكذا التفكر فيه، ومن هنا فقد يجازى الإنسان بالضلال الحقيقي الذي لا رجعة معه إلى الفطرة التي فطر عليها، وقد بين تعالى هذه المرحلة بقوله: (ومن يضلل الله فما له من هاد) غافر 33.

وبناءً على هذا التقسيم يظهر أن قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون***ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) البقرة 6-7. لا يراد منه جميع الكفار باعتبار أن هناك فئة منهم يمكنهم الانتفاع من الإنذار عندما يوجه إليهم، أما القسم الذي ذكر في الآية فهم من تساوى لديهم الإنذار وعدمه، وذلك لأن الأجهزة التي جعلها الله لهم أصبحت غير مستعدة للتمييز بين كلامه تعالى وبين كلام رؤساء الفتنة لديهم، ومن هنا كان توجيه النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; بأن لا يجهد نفسه في إنذارهم لأن الأمر قد تم بعد حصول الختم على قلوبهم، وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم، جزاءً لما صدر منهم. ومن خلال هذا النهج يمكن أن يستفيد الإنسان الداعي إلى الله تعالى من اكتشاف الطرق المثلى في التوجيه، وكيف يواجه المجتمع بطبقاته المختلفة واتجاهاته المتعددة، حتى يستطيع أن يضع الأمور في نصابها، فهناك أناس كثر لا يمكنهم سماع الوعظ أو الإرشاد، فهؤلاء لا يستقيم معهم التوجيه أو الحوار، وبهذا يكون جدالهم بالتي هي أحسن أقرب إلى تحصيل الحاصل. فإن قيل: إذا كان الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء فما فائدة الحديث عنهم وتبيان المراحل التي ينتهون إليها؟ أقول:

أولاً: توجيه النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; لأجل أن لا يجهد نفسه في إرشادهم كما أشرنا من خلال البحث.
ثانياً: الاشارة إلى مرحلة تأريخية لأن هؤلاء هم كفار قريش، باعتبار أن سورة البقرة هي أول السور التي نزلت في المدينة.
ثالثاً: إثبات صحة ما جاء في القرآن الكريم، حيث أن المشار إليهم لا يمكنهم العدول إلى الطريق الأسلم المتمثل في الإيمان بعد الكفر، كما في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) المسد 1. وكذا قوله: (سأصليه سقر) المدثر 26. وهذا ما يجعل الأمر ظاهراً من أن هذا النهج قد كتب له عدم التبديل أو التغيير على الرغم من وجود بعض المحاولات الصادرة من الكفار، كما قال تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) الفتح 15. فإن قيل: ماذا تعني بالختم الحقيقي الذي ورد في عنوان المقال: أقول: الختم هو نهاية المراحل التي طبع عليها وتم احكامها، وقد تختلف درجاته، فمنها ما يكون بفعل المضلين، وهؤلاء لا يمكن أن يكون ختمهم حقيقياً وذلك لعدم استجابة جميع الأفراد الذين وجه إليهم الإضلال، كما في قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) القصص 72. ومنها ما يكون بفعل الشيطان، وهذا أيضاً لا يمكنه الاحاطة بجميع من يقع عليهم فعله، كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) الحج 52. وكذا في قوله: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين***إلا عبادك منهم المخلصين) الحجر 39-40. ثم بعد ذلك أجابه تعالى بقوله: (قال هذا صراط علي مستقيم***إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر 41-42.

وهذا السياق يدل على أن أفعال الله تعالى هي الأفعال الحقيقية، كالطبع والختم والمكر والخداع والكيد وغيرها من الأفعال التي ذكرت في متفرقات القرآن الكريم، أما أفعال غيره فهي دون ذلك، كما في قوله: (إنهم يكيدون كيداً***وأكيد كيداً) الطارق 15-16. وكذا قوله: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون) الطور 42. من هنا نعلم مدى ضعف كيد الشيطان أمام كيد الله تعالى، وقد أشار quot;جل شأنهquot; إلى هذه الحقيقة بقوله: (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) النساء 76.

* من كتابنا: القادم على غير مثال


[email protected]