من المعروف في تعاملات الفلاحين البسطاء في القرى والنجوع أنهم يربطون الأبقار في حقولهم بأوتاد ويثبتونها في الأرض خوفا من تسللها إلى الحقول المجاورة فتأكل المحاصيل التي للغير وتسبب المشاجرات بين الجيران. فإذا جاء أحدهم وشهد أنه رأى رجلا ينزع الوتد من الأرض مما ساعد الأبقار على التعدي على حقول الآخرين والأكل منها أو إفسادها تجتمع القرية عن بكرة أبيها لاحتواء الأزمة ووأد الفتنة قبل أن تدخل القرية في مشكلات وأعمال شغب وحرق ونهب واحتقانات وتوترات تفقدها السلام والأمن والآمان.
وتجتمع القرية وتدرس المشكلة وتطالب بمحاكمة الجاني محاكمة عادلة... إلا أنهم يختلفون حول مفهوم العدالة ففيما يرى البعض أن حل المشكلة يكمن في القصاص من الرجل الجاني وعقابه حتى يكون عبرة لغيره من الأشرار.. يرى آخرون أن الجاني الحقيقي هي البقرة لأنها هي التي أكلت من محاصيل الغير بدون وجه حق وليس الرجل ولا يجب محاكمة الأبقار لأنها تتصرف بالفطرة وليس لها عقل يفكر، وأن الرجل لم يأمر ولم يحرض البقرة على الاعتداء على الحقول المجاورة ولا يمكن الحصول على دليل مادي واحد على ذلك فالأبقار لا تتكلم.
ويرى فريق ثالث أن الرجل غير مدان لأن البقرة ربما هي التي زحزحت الوتد من مكانه وأن الرجل كان ينوي تثبيته وليس نزعه غير أن قوة البقرة كانت هي الأقوى !! فالمشكلة الحقيقية هي في الأوتاد الفاسدة التي توفرها الجمعية الزراعية لأنها أوتاد غير مطابقة للمواصفات القياسية ويجب محاكمة المستورد أو الجهات المسئولة التي سمحت بإدخالها إلى البلاد.
ويأتي السؤال الأول موجها إلى الرجل المتهم هل أنت صاحب البقرة؟ يجيب الرجل نعم هي ملك لي. هل أنت عن عمد وإصرار نزعت الوتد من الأرض؟ فيجيب نعم أنا فعلت ذلك. وهل كنت تعلم أن البقرة ممكن أن تعتدي على الحقول التي للغير وتفسد المحاصيل؟ نعم كنت اعلم. لماذا فعلت ذلك أذن؟ يصمت الرجل ولا يجيب بكلمة واحدة؟ يسأله القاضي يجب أن تدافع عن نفسك وتبرر تصرفاتك حتى تذهب حرا طليقا وتنتهي المشكلة quot;وتعود المياه لمجاريها.. ويا دار ما دخلك شرquot; فلا ينطق الرجل ببنت شفه. هل أنت نادم على فعلتك الشريرة هذه؟ يجيب الرجل لا لست نادماً. كيف لا تشعر بالذنب والخجل مما فعلت وقد تسببت بأفعالك هذه في إيذاء جيرانك وأحدثت فتنة في القرية كلها؟ يصمت الرجل ولا يتحرك له ساكنا. يتدخل في هذه الحالة الدفاع ويطلب إطلاق سراح الرجل معللا ذلك بأن موكله مختل عقلياً إذ لا يوجد عاقل واحد على الأرض يقر ويعترف بارتكاب الذنب ولا يدافع عن نفسه ولا يبرر تصرفاته ولا يعترف أنه أخطأ ونادم على فعلته.
عندئذ يصرخ البعض من أصحاب الصوت العالي قائلين أطلقه أطلقه... كيف تحكمون على مختل عقليا ! أنه رجل مسكين يستوجب الشفقة يأتي أحدهم ويقدم له كوبا من العصير الطازج ! ومن المؤكد أنه لم يفعل شراً ولم ينزع الوتد لأنه لو كان هو الفاعل لكان برر أفعالة وذكر الأسباب أو فعل ذلك بدون وعي. نعم إن موكلي في غيبوبة... فلا يوجد إنسان على ظهر البسيطة يعرف أنه أخطأ ولا يندم على ذلك إلا إذا كان معوقاً فكريا أو مختل عقلياً..
بعد كل هذا يصدر القاضي الحكم ببراءة المتهم وإدانة الشيطان قائلاً لم يرتكب أحدا أي خطأ.. لا الرجل أخطأ.. ولا البقرة أخطأت.. ولا الأوتاد فاسدة.. وإنما الشيطان قد احدث عاصفة هوائية فتزحزح الوتد فتحركت البقرة واعتدت على حقول الغير. المدان الوحيد هو الشيطان والعياذ بالله. وهكذا فقد انصرف الجميع بسلام كاذب ومزاج مخدوع إلا أصحاب الحق الذين اعتدت على حقولهم الأبقار ومعهم نفر كثير من العقلاء... فلا يزالون يبحثون عن الشيطان ويفتشون عنه في كل مكان.
عند ربط الأفكار المستوحاة من هذه القصة مع الأحداث الطائفية والإرهابية التي تتعرض لها مصر أجد أن المسئولية الأولى تقع على الدولة فعليها أن تمنع دخول الأوتاد الفقهية المغلوطة والمواد الفكرية الفاسدة إلى البلاد إذا كان ذلك عبر شاشات الفضائيات أو من خلال عناصر البترودولارات وأن تبحث عن أولئك الذين يحدثون العواصف الفكرية الشريرة وتعالجهم بطريقة سليمة وصارمة.
على الدولة وحدها تقع مسئولية أفعال وردود أفعال أولئك الذين يعملون في مجالات كهرودينية أو مجالات كهروسياسية أو في خليط من الاثنين معاً وهو النوع الأشد خطرا على المجتمعات العربية لأنهم الذين أفسدوا المناخ المجتمعي العام دينيا وسياسياً خصوصاً في المدارس والجامعات والنقابات والأزقة والحواري والزوايا.
على الدولة وحدها تقع مسئولية أولئك الذين يمطروننا كل يوم بكم هائل من التناقضات الفقهية التي يفصلونها على أمزجتهم الخاصة بعيدا عن صحيح الدين فنسمع عن عدم ولاية القبطي، ونسمع عن آراءهم الخاصة حول الجزية ونسمع عن الانتماء للدين وليس للوطن فغيروا الطقس الجميل من quot;أنا مصريquot; إلى طقس شديد البرودة أو شديد الحرارة مثل quot;أنا مسيحيquot; أو quot;أنا مسلمquot;..
السلام على أرواح شهداء كنيسة القديسين بالإسكندرية الأطهار... إن دماءهم الذكية أثبتت أن مصر بخير.. مصر ثابتة لن تتزعزع إلى الأبد.. إن هذه الدماء الطاهرة استطاعت إن تصلح ما أفسده المفسدون ولم تستطع أي سلطه إن تصلحه نعم فقد التف المصريون جميعا حول quot;أنا مصريquot;... quot;نموت نموت وتحي مصرquot; نعم لقد وحدت دماءهم الذكية المصريون جميعا على محاربة التطرف الديني والتعصب البغيض.. نعم لقد وحدت دماءهم الطاهرة المصريون جميعا مسلمين وأقباط في اتجاه الدولة العصرية المدنية القائمة على دستور حديث يتبنى مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان كأساس لكل التشريعات.. دستور خالي من أية إشارات دينية تحت شعار الدين لله والوطن للجميع. اللهم أحفظ مصر آمنا وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الميلاد المجيد.
[email protected]
التعليقات