واحدة من اخطر ما يواجهه المجتمعات العراقية اليوم هي مشكلة هذا التراكم الكبير للقرى حول وفي مراكز المدن العراقية عموما وما ينتج من ضياع وتشويه لهوية القرى والمدن على حد سواء، فقد تحولت معظم هذه المدن الى مجتمعات قروية على شكل احياء ومجمعات تم ادغامها داخل تلك المدن مما اضاع هوية الكثير منها ومن تقاليدها وعاداتها على حساب انحسار المجتمعات القروية واحداث تفريغ كبير في البنية الريفية سواء بشكل متعمد او كناتج لسياسة خاطئة افرزتها عقود من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة، وفي مقدمة ذلك الدورة الاقتصادية المعروفة بانتاجها الاسري في الارياف بدءً من انتاج البيض والحليب ومشتقاته وصولا الى المنتجات الزراعية الموسمية الى جانب الحبوب وبالذات الحنطة والشعير والرز في معظم ارياف البلاد.
ونتيجة لهذه العملية المبرمجة منها والعشوائية فقد انكمش الريف انكماشا واضحا وتحولت دورة حياته الانتاجية الى عجلة استهلاكية تسحق امامها معظم وسائل الانتاج الريفية التي اشرنا لها رغم بساطتها وبدائيتها الا انها كانت تسد فراغا كبيرا في اسواق المدن التي انقلبت فيها موازين الاستهلاك والانتاج، حيث كانت وحتى مطلع الستينات من القرن الماضي تغرق اسواق المدن بمنتجاتها الزراعية والحيوانية من الخضراوات والفاكهة والبيض والدجاج والاغنام والابقار وما تنتجه من حليب والبان واجبان، والطرف المستهلك والمشتري كان ابن المدينة في معظم الحالات حتى تغيرت المعادلة تدريجيا فاصبحت معظم قوائم المشتريات تعتمد في اساسياتها على سكان القرى سواء الذين مازالوا في مناطقهم او ممن ارتحل منهم الى المدن وغمرها باستهلاكه، ورافق كل ذلك انماطا قروية وزراعية في السلوك والعادات والتقاليد غمرت المدن واحالتها الى قرى كبيرة فقدت فيها هويتها على حساب انحسار خطير للبنية الاجتماعية والجغرافية والانتاجية للمجتمع في تكوينه القروي والزراعي او المدني على مستوى المدن، فلا القرية حافظت على هويتها المتميزة في العادات والتقاليد والانتاج ولا المدن تطورت بنهجها المدني حيث اجتاحتها القرى وبدت مغمورة تماما بأنماط استهلاكية وسلوكية هجينة مسخت هويتها وأوقفت تطورها النوعي.
لقد حاولت السلطات في مقتبل السبعينات من القرن الماضي إحداث هجرة معاكسة للقرويين الذين نزحوا الى المدن ببعض الإغراءات التي استغلتها تلك المجاميع القروية واستحوذت عليها دون ترك المدينة مما تسبب لاحقا في فشل الحملة التي تميزت بالفوقية وعدم التخطيط مما ادى الى مضاعفة الهجرة الى المدن بعد ما تم استخدام القرويين في اجهزة النظام الخاصة وخاصة بعد عام 1975م، ومنحهم إغراءات الهجرة الى المدن ومنها قطعة الارض وبدل البناء ( العقاري ) وبالذات الى المناطق التي تتميز بفسيفسائها الديني والقومي والمذهبي مثل الموصل وكركوك وديالى وتكريت وبعض من بلدات الانبار وبابل والنجف وكربلاء مما ادى لاحقا الى احداث تشويهات ديموغرافية كبيرة انتجت صراعا اجتماعيا وقوميا ومذهبيا لحد يومنا هذا.
لقد تضاعفت هجرة القرويين وسكان الأرياف عموما بشكل كبير منذ سقوط النظام السابق وانهيار مؤسسات الدولة اثر عملية الاحتلال التي تعرضت لها البلاد في آذار 2003م، حيث نزحت عشرات الآلاف من الأسر والأفراد الى اطراف المدن وسكنت مقرات ومعسكرات وكثير من دوائر النظام السابق وخاصة في بغداد العاصمة والمدن المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية وفي مدن الشمال العراقي التي تعرضت لتغييرات ديموغرافية طيلة ما يقرب من نصف قرن تسببت في ترحيل مئات الآلاف من السكان الأصليين وإبدالهم بآخرين من قرى ومدن وبلدات من الجنوب والوسط، أو إخراجهم من مراكز المدن وإبعادهم الى مجمعات قسرية خارجها كما حصل في الموصل وسنجار وزمار والشيخان ودهوك وكركوك وديالى وتكريت واطرافهم.
وبعد السقوط وانتهاء عصر الدكتاتورية عاد عشرات الآلاف من أولئك المواطنين الذين تم تهجيرهم عنوة من مدنهم وقراهم الى حيث كانوا يسكنون فلم يجدوا بيوتهم او حقولهم حيث يسكنها آخرون فاستقروا في مقرات حكومية ومعسكرات قديمة، مما أدى الى نشوء كثير من الإشكاليات والصراعات التي تمت السيطرة عليها لحد الان بسبب اقناعهم بحل مشكلة ممتلكاتهم وعقاراتهم من خلال القانون والدستور ومادته العتيدة 140 التي وضعت خريطة طريق لحل كل تلك التشويهات الديموغرافية التي قام بها النظام عنوة في كل انحاء البلاد.
واذا كانت عملية اعادة القرويين وسكان الأرياف الذين سكنوا المدن طيلة الأربعين سنة الماضية حتى سقوط النظام عملية صعبة ومعقدة على الأقل مع الجيل الثاني الذي ولد ونشأ وترعرع في المدينة، فان التفكير بإعادة او التشجيع على الهجرة المعاكسة الى الأرياف اختيارا وليس عنوة لا تأتي من خلال قرارات فوقية ورغبات مجردة أو قسرية، بل تحتاج الى جهد وطني كبير للارتقاء بالريف العراقي وخاصة القرية وما تحتاجه لتثبيت السكان فيها والعمل على استقطاب الآخرين المهاجرين في المدن واطرافها الى مجمعات سكنية حديثة على شكل قرى متحضرة في ذات الأمكنة او قربها، لا تختلف عن المدينة في خدماتها الأساسية من ماء وكهرباء ومدارس وطرق معبدة، مع إيجاد فرص عمل من خلال دورة الإنتاج الريفي والزراعي، خاصة وان امكانيات البلاد الحالية تساعد على انجاز نقلات نوعية في حياة الفرد والمجتع وهي لا تحتاج الا الى تخطيط علمي وارادة وطنية خالصة ونزاهة وبياض في القلب واليد!؟
التعليقات