باستثناء مذبحة كنيسة سيدة النجاة لم تحظ عملية إرهابية في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة بمثل ما حظيت به مذبحة كنيسة القديسين الأخيرة التي وقعت في الإسكندرية. كانت المذبحة بشعة وفضلاً عن أنها ساهمت في فضح عدم إنسانية التطرف والإرهاب، فأنها جذبت أنظار العالم إلى المآسي التي يعاني منها المسيحيون في الشرق الأوسط في واحدة من الحالات النادرة التي يلتفت فيها العالم إلى منطقتنا بمثل هذا الاهتمام. حدثت المذبحة، استشهد العشرات، ترمل أزواج، تيتم أطفال، وفقد البعض كل من لهم على سطح البسيطة. الأمر ليس هيناً إنها مأساة كبرى ستظل محفورة في وجدان الملايين من الأقباط الذين غدر بهم وسط احتفالهم بعيد رأس السنة. إنها مأساة لأن كل قبطي يعتقد بأنه كان من الممكن أن يكون واحداً من الضحايا لو اختار الإرهابيون كنيسة أخرى هدفاً لعمليتهم.
تدريجياً ستهدأ الأمور في الإسكندرية ومصر وستعود الأمور إلى طبيعتها. سينسى الإعلام المذبحة وستخفت الأضواء الملقاة على الأزمة التي يعيشها الأقباط في وطنهم. وتبقى الأسئلة الصعبة المتعلقة بالأوضاع المتردية التي شكلت بيئة خصبة للإرهاب. فهل ستعود اسطوانة الاضطهاد للدوران من جديد؟ وهل ستطل علينا من جديد قصص اختفاء الفتيات؟ وهل ستتردد علينا مرة أخرى أنباء رفض بناء الكنائس؟ وهل سترن في أذاننا بين الحين والأخر أخبار اعتداءات على مصالح قبطية؟ وهل ستظهر الوجوه التكفيرية على شاشات الفضائيات تطعن في صحة عقيدة المسيحيين كما كانت قبل المذبحة؟ إنها أمور ربما تحدث، وهي إن حدثت فهي ستخدث لأنه من المستحيل أن تتغير الأمور كلها في يوم وليلة، وهي ستحدث لأن ردود الفعل الحكومية على المذبحة التي اتسمت بالعاطفية والتشنج لم تطرح حلولاً جذرية لمشكلة التطرف التي تنخر في عمود مصر الفقري.
ولكن وسط المشهد المأساوي علينا أن نعترف بأنه كانت هناك بعض الإيجابيات الذي ولدت من رحم الأزمة المريرة التي عاشها الأقباط. من أهم الإيجابيات التي رأيناها في هذا الأسبوع هو ارتفاع صوت النخبة المثقفة التي أعلنت توحدها مع الأقباط في أزمتهم. لم يكن للمثقفين ظهور بارز عندما كانت تشتعل مصر بأحداث طائفية في الماضي. كان الأقباط يعتبون كثيراً على النخبة المصرية المثقفة ارتفاع صوتها عند كل أزمة خارجية حدثت لمسلمين أو عرب في غزة أو لبنان أو العراق أو أفغانستان واختفاء صوتها تماماً مع أي عملية إرهابية تعرض لها الأقباط. ولكن يبدو أن الدماء الكثيرة التي سفكت في كنيسة القديسين بالإسكندرية قد أيقظت ضمائر المثقفين فهرعوا يحتضنون الأقباط ويتحدثون بصوت مسموع عن معاناة واحتياجات شركاء الوطن الضعفاء المظلومين.
كشفت التغطية الإعلامية لمذبحة الإسكندرية عن الغث والسمين في الإعلام المصري. لست ممن ينجذبون بمعسول الكلام أو ينخدعون بالدموع المنسالة أمام الكاميرات حتى أصدق كل ما قيل ويقال عن المذبحة، ولكن من المؤكد أنه كانت هناك تغطية صادقة من قبل بعض الإعلاميين. لعلها المرة الأولى التي تتناول فيها شاشات الدولة متاعب المسيحيين عن حق من دون الاكتفاء باستخدام quot;أقباط الحكومةquot; في التعبير عن الحالة الوردية للوحدة الوطنية. كان هناك تعامل واقعي مع الأمور واستمعنا لإعلاميين محسوبين على الدولة يطالبون بسن قانون العبادة الموحد ورأينا صحفيين حكوميين يشددون على أهمية ترسيخ مبدأ المواطنة من دون مواربة وينددون باستبعاد الأقباط من الوظائف السيادية بالدولة. هذه كلها أمور إيجابية لم نعتدها من قبل. لم تعد كل الأمور على مايرام كما كنا نعتدها من قبل. صًارت هناك قضية وصارت هناك مطالب وحقوق يتباها ليس الأقباط فحسب ولكن بعض من شركاء الوطن الواعين.
مئات المسيحيين راحوا ضحية التطرف والإرهاب في العقود الأربعة الماضية، ومن المؤسف أن كل الجهود القبطية للمطالبة بحقوق دمائهم لم تنجح لأن الأقباط لم يتلقوا المساندة المطلوبة من رموز المجتمع المصري كالمثقفين والإعلاميين. ولكن الأمور تبدو أفضل اليوم بفضل انضمام مجموعات ذات تأثير كبير إلى صفوف الأقباط. لم تضع دماء شهداء كنيسة القديسين هباء ولن يسمح أحد بأن تضيع هذا ما تعهد به الكثيرون من المثقفين والإعلاميين هذا الأسبوع. صارت هناك صفحة جديدة هكذا قالوا. وقالوا أيضاً أنه صار هناك ما هو قبل مذبحة كنيسة القديسين وما بعدها. ربما كان هناك أمل في جديد جيد. ولهذ تبدو تحية دماء الشهداء الأبرار واجبة. تحية لمن أوقظوا ضمير الكثيرين من مثقفي وإعلاميي مصر. تحية لمن بفضلهم ربما تبدو في الأفق أمال. تحية لهم في عيد الميلاد المجيد الذي كانوا يستعدون لقضائه بين ذويهم، ولكن شاء الله بهم أن يقضوه في أحضان السماء.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات