قبل أسبوعين فقط، لم يكن احد يصدق أن الشعب التونسي سيجذب إليه الأنظار بهذه القوة ويستحوذ علي الانتباه والمتابعة علي مستوى المنطقة العربية والعالم بهذه الأريحية.. ولم يكن احد من المراقبين في أوربا يتصور أن يبتعد بناظريه مترقبا حدثاً جديداً في لبنان وإيران وقطاع غزة وباكستان وأفغانستان خلال نفس الفترة، إلي أن احتل الشأن التونسي إطار الصورة بالكامل بلا منازع..

هذا التغير الذي فرض نفسه علي الساحتين الإقليمية والعالمية.. يمثل أجراس إنذار عالية الرنين، يجب وبكل المقاييس أن تستمع إليها كل الأنظمة العربية المشابهة في شرقنا وكذا مثيلاتها الإسلامية القريبة منا والبعيدة التي لا تري حقيقة أوضاع شعوبها الداخلية وتصمم علي سد آذانها عن سماع صراخ مجتمعاتها وتزدري آراء معارضيها وتدهس عن قصد حقوق الجميع، ولا تري إلا نفسها في مرآة ذاتها المتضخمة وفي مدائح مناصريها والمستفيدين من تواجدها في الحكم لسنوات طوال..
عنونت صحفية الجارديان البريطانية ndash; السبت 15 يناير - واحداً من مقالاتها التحليلية كما يلي.. quot; اضطرابات تونس تدق ناقوس الخطر في المنطقة quot;..

مقال أدار كاتبه إيان بلاك رؤيته المتعمقة حول مخاوف العديد من الدول العربية من أن تنطلق quot; الشرارة التونسية إلي مجتمعها quot; من منطلق أنها تتماثل مع ما كان يتصف به نظام الرئيس زين العابدين بن علي من quot; ملامح ديكتاتورية ترتكز في تسيير شئونها علي القمع والإرهاب والتعتيم وتكميم الأفواه quot;..
وضمن التحليل يشير المقال إلي أكذوبة التأييد الغربي لما وصف طوال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس التونسي بالإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها بلده علي يد الاستثمارات الأجنبية.. حيث أبانت الاضطرابات عن وجهها ndash; الاستثمارات - القبيح ودللت كيف أنها جنت أرباحها المتضاعفة علي حساب معظم شرائح طبقات الشعب بعامة ومعاناة العاطلين منهم في المقام الأول.. كما أشارت إلي ابتعاد توجهاتها ndash; الاستثمارات - كلية عن متطلبات السلام الاجتماعي والحقوق الإنسانية المتساوية المتعارف عليها..
لذلك لم يَستغرب المعلقون الطريقة التي ترك بها الرئيس التونسي البلاد..

ولم يستغربوا أن ترفض الحكومة الفرنسية استقباله وتوفير ملاذ امن له..
ولم يندهشوا لما تعرضت له المؤسسات التجارية التي كان يملكها أفراد من عائلة طرابلسي التي تنتمي إليها السيدة قرينته من تخريب ودمار ونهب..
ولم يستبعدوا لجوء افرد من الشرطة إلي أسلوب التدمير والسطو، لكي يُفرغوا المطالب الشعبية العادلة بالتغيير واستعادة الحقوق من مضمونها الحقيقي..
.. هذا قليل من كثير سوف تتكشف عنه الأيام القادمة، خاصة بعد أن أعلن الديوان الملكي بالرياض ndash; بعد أن ذهبت التكهنات مذاهب شتي - عن لجوء الرئيس التونسي وبعض أفراد أسرته إلي المملكة العربية السعودية وفق شروطها المعلنة والمتعارف عليها والتي تتمحور كلها حول الامتناع عن العمل السياسي واللقاءات والحوارات الإعلامية وتحويل الأموال..

وما يعنينا، حتى تًتكشف حقيقة ما جري خلال الساعات الأخيرة للرئيس زين العابدين بن علي في عاصمة بلده تونس، هو ما يزخر به الإعلام العالمي من إرهاصات يَزعم الغالبية من المراقبين أنها ى زالت تهمين علي تفكير ومتابعة ومراقبة ورصد غالبية الأنظمة الحاكمة في المنطقة..
فإذا كان الأمر كذلك..

فهل يُعاد النظر في الإصرار من جانب هذه الأنظمة علي البقاء في صدارة الحكم لمدد متكررة سواء نص دستور بلدهم علي ذلك وفق تعديل أجروه عليه أو يستعدون لإجرائه؟؟ بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن مثل هذه التعديلات غالباً ما تنتهي بكارثة أو أزمة انتفاضية أو ثورية..
وهل يراجع الجميع موقفهم من مستشاريهم الذين غالباً ما يُزينون لهم الباطل ويحَسنون لهم المفاسد؟؟ بعد أن اتضح للقاصي والداني أن ما يَعرضون من صور مزيفة لا يدوم تأثيره طويلا ولا بد أن تنكشف حقيقته التي تزداد سواداً مع طول فترة البقاء في السلطة..
وهل يمكن فك ارتباط تلك الأنظمة برأس المال المستثمر الذي لا يراعي التوازن الاجتماعي وحدود ما يتطلبه من تكافل من المفترض أن ترتكز عليه حكوماتها لضمان الحد الأدنى للحراك الاجتماعي الايجابي البناء؟؟ بعد أن أثبتت التجربة التونسية أن ترك الأمر علي غاربه لقانون السوق دون رقابة حكومية جادة أو مدنية واعية، فيه من الأضرار والسلبيات ما يؤدي إلي اشتعال النيران في وقت قياسي وبلا تحفظات..

وهل تفضل غالبية هذه النظم البقاء فوق الكراسي حتى تطيح بها انتفاضة مماثلة أو انقلاب أو ثورة، سمها ما شئت، أم أن لديهم من الوعي ما يدفعهم لجرد أحوال أنظمة حكمهم بشفافية لا تشوبها شائبة الزيف وخداع النفس! للتعرف قبل فوات الأوان علي موطأ قدمهم؟؟ في ضوء الساعات الأخيرة من عمر نظام الرئيس زين العابدين بن علي وما جري له ولأسرته..

أليس من الأفضل لهم جميعاً بلا استثناء أن يتبادل كل منهم وجهات النظر بلا حساسية مع القوي السياسية ذات التأثير الفعال الايجابي في ساحة كل منهم، تحت مظلة المصلحة العامة وبرعاية قوي الشعب صاحبة هذه المصلحة قبل قوات الأوان؟؟ خاصة وأنهم يطالعون الآن ما جري في تونس بأدق تفاصيله وربما خفاياه..
وهل هناك إمكانية لإبعاد أنفسهم عن التطمينات التي تجعلهم يثقون في قدرة الغرب علي دعم أنظمتهم في ضوء ما يفرزه قادته ومراكز صنع قراره بزعامة واشنطن تباعاً من ثقة فيهم وفي قدرتهم علي تسيير الأمور، طالما يشاركون في وضع محاربة الإرهاب علي رأس اهتماماتهم وطالما يحرصون علي تهميش وإقصاء القوي السياسية المناوئة لهم؟؟ فقد فعل نظام الحكم التونسي كل ذلك بحرفية بالغة أرضت قادة هذا الغرب وصناع قراره، ولكنها جلبت السخط علي نظام الحكم التونسي من كافة قوي الشعب بلا استثناء..
وهل يمكن أن يزداد هذا الابتعاد خطوة أوسع بالإعلان عن رفضهم لكل مطلب تتقدم به العواصم الغربية ولكل منهج مالي تفرضه المؤسسات المالية الدولية، طالما دلت ردود الفعل الشعبية علي تعارضه مع مطالب فئاتهم الساعية لحياة حرة كريمة تحفظ لأفرادها حقوقهم الإنسانية وتوفر لهم المناخ الايجابي للتعبير عن مجمل الآراء التي يؤمنون بها وفق خلفياتهم الثقافية ومورثهم الحضاري والعقائدي..

وهل يمكن أن تعمل علي الاقتراب من شعوبها عدة خطوات لتسمع لهم وتناقشهم بلا استبعاد ودون ترويع أو إهدار للحقوق لأنهم شركائها الحقيقيون في المسئولية؟؟ بعد أن لمست ما ترتب علي رفض النظام التونسي لأكثر من ربع قرن الحوار مع الآخر والعمل بكل السبل علي إبعاده من الساحة ونفيه بكل السبل، وقيامه ببناء الأسوار حوله مرة بالارتكاز علي الغرب ومرة بتوثيق العلاقة برأس المال الوطني أو الأجنبي ظناً منه أنها توفر له الحماية !! وإذ هي تتهاوي في وقت قياسي وتجبره علي ترك المنصب شاغراً والكرسي خالياً..

وإذا كان البعض يرفض مقولة أن الشعب التونسي انتفض علي حاكمه، ويقيس البعض الآخر الأمور بمقياس الثورة التي أجبرت الحاكم علي الفرار.. فالأمر المؤكد أن الضغط الشعبي تخلص من نظام حكم كان لا يرتضيه في السر وفي العلن..
الذي لا خلاف عليه الآن..

أن نموذج هذا الضغط الشعبي التونسي تتوافر مؤشراته بين جنبات الكثير من المجتمعات العربية التي أكد الكاتب الصحفي البريطاني باتريك كوكبيرن في صحيفة الاندبندنت ndash; 15 يناير ndash; أنها تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار، لأنها تعاني من حكم بوليسي قامع للحريات وترزح تحت وطأة أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية ربما أشد قسوة مما تعرض له الشعب التونسي أو هي علي اقل تقدير مماثلة لها..

من هنا يصبح السؤال.. أيها ستنتقل إليه الشرارة التونسية التي فرضت نفسها من حيث لم يكن احد يتوقع أن تنطلق!

bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا drhassanelm
[email protected]