ثلاثة أحداث مصيرية وقعت في العالم العربي في أواخر العام الميلادي الماضي وبداية العام الجديد 2011، وهي ثورة تونس المباركة، وجريمة كنيسة القديسين في مصر، واقتطاع جزء كبير من السودان.

يربط الأحداث الثلاثة ببعضها أنها تؤشر إلى خط سياسي عالمي خطير جداً بدأ منذ غزو أفغانستان وانتشار فكرة الشرق الأوسط الجديد ومازال مستمراً وبخطى متسارعة، وبوضوح يزداد شدة كلما ازدادت الأنظمة العربية تغافلاً واستهزاء بمصالح أوطانها وشعوبها، وترامياً في أحضان الغرب واستجداءً منه واستقواءً به.

من ناحية تسلسل الأحداث كانت الانتفاضة الشعبية في تونس والتي بدأت يوم 17.12.2010 عندما أحرق الشاب محمد بوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد، هي الأولى، وجاء بعدها التفجير على باب الكنيسة في الإسكندرية، وأخيرا جاء الإنفصال عن طريق الاستفتاء في هذا الأسبوع.

أحداث تونس مازالت تتوالى وتتناقلها وكالات الأنباء بعد أن وجدت أن الصمت لم يعد ممكناً، حفاظاً على المصداقية الكاذبة التي عودنا عليها الغرب بإعلامه المنحاز، فقد قررت فرنسا وهي أعلم الناس بما يجري أن تتكلم بعد أسبوع من بدء الأحداث وبعد أن اقتنعوا أن ما يحدث لن يتوقف وأن النظام التونسي لم يستطع أن يسيطر على الوضع بالسرعة المطلوبة، وكذلك فعلت وكالات الأنباء الإسبانية، أما الألمانية فقد وصلت إلى الطلب من مواطنيها الاحتراز عن السفر إلى تونس، وسمعنا بعض الأصوات من الاتحاد الأوروبي تناشد بن علي بعدم استخدام العنف بعد أن سقط خمسون قتيلا برصاص الشرطة الحي.

في مصر كانت ردود الأفعال أسرع من الفعل نفسه وجاءت من جميع أنحاء العالم الغربي ثم العربي والإسلامي، ربما لشناعة الحدث واستهدافه لأناس خارجين من صلاتهم وعبادتهم، وربما لأن القتلى من نوع آخر، وربما لغايات غير نبيلة في نفوس المنفعلين. المهم أن الجميع كان يعرف الجاني ويعرف أنه مسلم متطرف ولكن الغريب أن كل التحقيقات حتى اليوم لم تصل إلى متهم واحد تنطبق عليه هذه الصفات!

أما انفصال الجنوب في السودان فهو مثال حي على ديمقراطية الغرب وحرياته التي يسوّقها في بلادنا والتي يخبئها لنا، ومثال على كيفية تمزيق بلادنا بأيدي حكامنا ونخبنا ومثال على اهتمامات الحاكم العربي الذي لا يكترث بأن يُستقطع جزء كبير هام غني بالثروات من بلده طالما أنه وأسرته مازال في الحكم، ومثال على تعاضد حكام العرب عند الكوارث والأزمات فقد زار الحاكمان المعمِّران القذافي ومبارك السودان قبل الاستفتاء بأسبوع ليطمئنوا البشير بأنهم معه حتى لو فقد كل السودان وحتى لو لم يبق من السودان سوى القصر الذي يحكم منه.

هذا عن الأحداث الثلاثة ولكن ماذا عن الفتنة؟

هناك اتجاه واضح يدعم بقاء حكام العرب ويمنع كل تحرك سلمي أو عسكري ضدهم يقوده صنفان من الناس: الأول هم المنتفعون من هذه الأنظمة مهما علت مراتبهم أو سفلت تجمعهم المصلحة الآنية والأنانية المطلقة ومبدأ نفسي نفسي ومن بعدي الطوفان. أما الفريق الثاني فهم للأسف قسم كبير ممن يطلقون على أنفسهم quot;السلفيونquot; ومبدأهم هو تربية الناس على الإسلام حتى ينصلح حال المجتمع لوحده بإرادة ربانية ومعجزة إلهية وحاكم عادل يهبط من السماء أو يخرج من السرداب يبعثه الله كمكافأة لهؤلاء العلماء الربانيين الذين استطاعوا أن يقنعوا الشعب كله بالإسلام ويعيدوه إلى ربه، مع اختلافهم هم أنفسهم في الوسائل والمبادئ والطرق والأهداف وأحيانا في العقائد، ولكن يجمعهم جميعا الخوف من الفتنة. والفتنة هنا هي قيام الشعب في وجه الحاكم الظالم وتغييره لأنها قد تؤدي إلى استقدام حاكم أسوأ، أو قد تؤدي إلى خسائر في الأرواح والممتلكات وفوضى في البلاد يعتقدون أنها ستحرق الأخضر واليابس ولا يبقى شيء وخاصة أنهم يعرفون أنهم سيكونون من المتضررين لأن جماهيرهم ستنفض عنهم بعد أن تتبين خطأ مقولاتهم وأنهم لو لم يستمعوا لهم لما لبثوا في العذاب المهين.

العجيب أنهم لا يرون في أحداث في مصر والسودان فتنة، ولا يرون في تقسيم البلاد الإسلامية فتنة، ولا يرون في الحاكم نفسه فتنة، ولا يرون في نداء الأقباط في مصر لقيام دولة قبطية ذات حكم ذاتي فتنة، ولا يرون في الدماء التي تسيل في دارفور مثلا فتنة، ولكن الفتنة كل الفتنة هي في القيام في وجه الحكام وتغييرهم، منطق لا أدري كيف يقتنع به شباب مثقف متعلم فقير جائع لا يملك أن يتزوج ولا أن يعيش ولا أن يعمل ولا أن يأكل حتى، ولكنه يجلس أمام هؤلاء كالمخدر يفتح فمه ويلغي عقله وينتظر إصلاح ثمانين مليون مواطن ليخرج من بينهم من يحكمهم بعدل الإسلام ويخرجهم من جور الحكام!

يتحججون دوماً بما حصل في العراق، تماماً كما يخوف الحكام شعوبهم به، فهم يقولون إما أن تصمتوا وتقبلوا وترضخوا أو سيكون مصيركم مصير العراق وأهل العراق، ولكنهم لا يقولون لنا ماذا كان سيحصل لو قام العراقيون بما يقوم به التونسيون الآن واستطاعوا تغيير حاكمهم قبل أن تأتي أميركا لتغيره، حتى لو خسروا عشرات الآلاف من أبنائهم ومئات الملايين من أموالهم؟ هل خسائرهم الآن أقل؟ ألم يكن بالإمكان تغيير أكبر طاغية في العالم بمعشار هذه الخسائر التي حصلت الآن والتي يراها كل ذي بصر؟ ولكنه المنطق المعكوس الذي لا يستحي أن يستخدم الدين لتكريس الظلم، ولا يستحي أن يستخدم الأحاديث بعد أن يلوي أعناقها لمعارضة أول مبادئ الإسلام وهو مبدأ إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ولا يستحي أن يقول للناس إن البدعة في الدين أن تصوم وتصلي في أيام اختلف فيها وأن تذكر الله في جماعة أما أن تطيع أحبار الحاكم ورهبانه فهو محض الإيمان والإخلاص حتى لو لاحق اللحية والحجاب وحتى لو باع البلاد وقسمها وجعل أهلها شيعاً يقاتل بعضهم بعضا ويفجر بعضهم كنائس ومساجد وصوامع بعض.

يتحججون بأنهم لا يريدون استبدال حاكم بآخر طالما، ولكن لا يريدون أن يفهموا أن دولة الإسلام لن تقوم قبل أن يتهيأ لها المناخ الحر الذي يستطيع فيه الناس أن يختاروا الإسلام، وأن كل ما يفعلونه من إصلاح لا يساوي معشار ما يقوم به الحاكم من فساد وإفساد، وأن حمل الناس على المكارم لن يكون قبل تأمين أساسيات الحياة الكريمة لهم، وأن تخدير الناس عن حقوقهم سيجعلهم مخدرين عن واجباتهم أيضا.

يقول أحدهم تعليقاَ على أحداث تونس: هذا لا يهمنا لأنه يحدث من أجل الدنيا!!!!! فالناس هناك تطالب بالطعام والعمل والحرية ولا تطالب بإقامة شرع الله لذلك لا نتدخل في هذه الأمور!.... هكذا لا يتدخل لا هو ولا مريدوه لأن الشعب التونسي لا يطالب بإقامة الشريعة! وكأن ما يقوم به الرئيس بن علي من إغلاق المساجد ومنع الحجاب وملاحقة المصلين هو الشريعة، وكأن الشعب إذا انتصر واستطاع إنهاء حكم هذا الطاغية سيحضر مثلا أبا لهب أو أبا جهل ليحكمه بدل بن علي! وكأن العيش الحر والحق في الغذاء والعمل والدواء والسكن ليس من الشريعة وكأن العيش الذليل والقبول بأن ينهب الحاكم وأسرته وحاشيته كل مقدرات البلد وثرواتها هو الشريعة.

أما الآخر فهو يحذر أبناء بلده التعساء من أن يفعلوا ما فعل أهل تونس الشرفاء وينصح أهل بلده (وأهل تونس أيضا) بأن لا يلجأوا لمثل هذه المظاهرات والإضرابات ففيها ضرر كبير، أما حياتهم التي هي أشبه بحياة الحيوانات وفقرهم الذي يجعلهم يأكلون من المزابل ويعيشون في المقابر فهو قدر الله الذي لا يرد وإرادة الله الذي خلقهم ليكونوا عبيدا وكل محاولة لتغيير هذا الواقع لا تجوز ولا تصح وليس عليهم إلا الانتظار بعد إصلاح أنفسهم وإلا فإن مصيرهم الفتنة.

العجيب أيضاً أننا نعلم جميعاً أن هؤلاء السلفية اتخذوا الصوفية من ألد أعدائهم وهم يحذرون الناس منهم ومن بدعهم وأفكارهم، وقد تعلمنا من إخوتنا السلفيين أن من أشد مصائب الصوفية أنهم تركوا الجهاد وقعدوا في الزوايا والتكايا يصلحون أنفسهم ويصلحون الناس وتركوا ما لقيصر لقيصر وكانوا يخدرون الناس بفكرة القضاء والقدر عن الجهاد والوقوف في وجه الحكام، فماذا يفعل السلفيون الآن غير هذا؟؟؟ الفرق الوحيد أنهم يعتقدون أنهم على مذهب السلف وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهم أصحاب العقيدة الصحيحة وأن الآخرين كلهم مخطؤون. وهل كان الصوفية يعتقدون غير ذلك؟؟؟

رجائي إلى هؤلاء العلماء، الذين لا نشك في إخلاصهم: أعيرونا صمتكم إلى أن تنتهي الأحداث وإلى أن يقوم الشعب التونسي (الجاهل برأيكم والبعيد عن العقيدة الصحيحة التي احتركتموها لأنفسكم)، بتغيير هذا الفرعون الصغير وبإقامة حكومة وطنية (وأقول هنا عمدا وطنية وليس دينية) تعمل من أجل إنقاذ هذا البلد من الفقر والجهل والفساد والطغيان، ومن أجل توزيع الثروة بين الناس بالعدل والمعروف وبفتح المجال أمام النور ليدخل تونس بعد أن عمها الظلام، ثم قوموا بعد ذلك بإطلاق رسائلكم ومواعظكم فالشعب الحر عندها سيتفاعل معكم أكثر لأنه يستطيع أن يفعل يومها ما يعتقد أنه الحق أما الآن فهو محروم من أن يطبق أفكاركم ونداءاتكم له بالإنصلاح لأنه يفكر في قوت يومه ويمنعه حاكمه من تأدية واجباته الدينية التي تدعونه إليها. بهذا ستكونون أنتم الرابحون، أما إذا فشل الشعب لا سمح الله في التغيير، فستربحون أنتم أيضاًُ لأنكم بالأصل لا تريدون تغيير هذا الحاكم الذي يمثل إرادة الله في الأرض بنظركم.

أعيرونا صمتكم فقد مللنا الفقر والبطالة والجوع والحرمان وكل ما تأمروننا أن نصبر عليه بانتظار الجنة وكأن الجنة حكر على الفقراء وكأن الجنة حكر على العاطلين عن العمل الذين يرون أولادهم يموتون بين أيديهم وهم لا يملكون ثمن الدواء. تعالوا ياأيها العلماء وعيشوا أسبوعا في سيدي بوزيد بدون ماء ولا كهرباء ولا فضائيات ولا مريدين يملآون مساجدكم ويتسابقون في تلبية حوائجكم (دون أن تطلبوا أنتم ذلك طبعاً فأنتم الأعزة المتعففون) عيشوا شهرا في مقابر القاهرة وفي مزابل الخرطوم وفي مدابغ الرباط وفي مخيمات غزة ولبنان وسوريا والضفة، وبعدها سنرى كيف تتغير الأحكام بتغير الأوقات والبلدان، نحن لا نريد أن نتعالج ولا أبناؤنا في ألمانيا وأوروبا وأميركا ولكن نريد أن نحصل على الدواء الذي لم يكتبه لنا الطبيب لأننا لا نملك أجرة الطبيبب. نحن لا نريد من يحمل لنا نعلنا عندما نخرج من المسجد لأننا أصلاً جئنا المسجد بلا نعل، ونحن لا نحرق أنفسنا ونتعرض للرصاص الحي بصدورنا العارية حبا في الموت أو طلباً للشهرة في الفضائيات ولكننا نموت من الجوع والفقر والحرمان وقلة الدواء، فإن كان عندكم دواء لنا غير الصبر الفارغ المتستر بالدين والدين براء منه، وغير المواعظ والكلام الفارغ والجعجعة من فوق المنابر فأفيدونا أفادكم الله.

ختاماً إن كنتم تخشون علينا الفتنة فلا تخافوا إنما الفتنة هي عيش الذل والخنوع والخضوع والأحلام المعسولة أما نحن فقد وجدنا الطريق ولن نحيد عنه إلى أن يحكم الله بيننا وبينكم وبين حكامنا بالحق.

ألمانيا