إثنا عشر يوماً مضت منذ ارتكب الإرهابيون جريمتهم الوحشية أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية بغرض قتل أكبر عدد من الأقباط المجتمعين للاحتفال بالعام الميلادي الجديد. إثنا عشر يوماً مرت كالدهر على الأقبط وأسر العشرات من الذين استشهدوا أو جرحوا في العملية. هدأت وتيرة ردود الأفعال، ولم تعد القضية تستحوذ إلا على أقل القليل من اهتمام الحكومة المصرية والرأي العام ووسائل الإعلام على الرغم من جسامة المذبحة وقسوتها. ذهبت القضية إلى الوراء في ترتيب الأولويات في إشارة لها الكثير من الدلالات، وعاد الأقباط من جديد ليضمدوا جراحات عميقة لم تندمل، جراحات يصل عمرها إلى نحو أربعين سنة، جراحات خلفتها عمليات منظمة ومنتظمة من الاضطهاد والتمييز والإرهاب.

ليس أدل على الاضطهاد الذي يتعرض إليه الأقباط من أن الجناة الذين ارتكبوا مذبحة كنيسة القديسين ما يزالوا طلقاء يتمتعون بحرية وأمن لا ينعم بهما قبطي واحد في أرض المحروسة. إثنا عشر يوماً مضت وما تزال قوات الامن المصرية تبحث وتحقق ثم تعود لتبحث وتحقق قبل أن تعود لتبحث وتحقق من جديد، وكأن الأمر لا يستحق تسخير كل الإمكانات والجهود للقبض على الجناة المجرمين وتقديمهم للقضاء حتى يشعر الأقباط بالاطمئنان والاستقرار.

تلعثمت أجهزة الأمن المصرية كثيراً في جهودها للكشف عن مرتكبي المذبحة، فهي تارة تقول بأن سيارة مفخخة انفجرت قبالة الكنيسة وتارة أخرى تقول أن إرهابياً انتحارياً نفذ الجريمة. تلعثمت أجهزة الأمن في قضية مذبحة الإسكندرية من دون ان تقدم مبررات لتلعثمها، حتى أن الكثيرين من الأقباط راحوا يرددون فيما بينهم ما سبق وأن رددوه في مآسي أخرى سابقة وهو أن أجهزة الأمن تماطل في القضية بغرض تمويتها من دون تقديم المجرمين المسئولين عنها للعدالة.

وللحق فإن تلعثم أجهزة الأمن ليس أمراً غريباً عنها، فأجهزة الدولة كلها في مصر تتلعثم حين تتعلق الأمور بقضايا ومطالب وحقوق الأقباط. ولمن لا تسعفه ذاكرته أذكره بأن أجهزة الدولة التنفيذية تتلعثم في أمر بناء الكنائس، وأجهزة الدولة الإدارية تتلعثم في تعيين الأقباط في المناصب العليا، وأجهزة الأمن تتلعثم في القبض على قتلة الأقباط، ووسائل الإعلام تتلعثم في تناول قضايا الأقباط بموضوعية، والقضاء المصري يتلعثم في إنصاف الأقباط. ولعلنا نتذكر هنا كيف تلعثمت محافظة الجيزة مؤخراً في العمرانية، وكيف تلعثمت أجهزة الأمن مع مظاهرات السلفيين التي أهانت الأقباط وهددتهم بمذابح، كيف تلعثم القضاء لمدة عقد من الزمان في قضية الكشح، ثم عاد ليتلعثم من جديد لمدة عام في قضية نجع حمادي.

لم تشعر أجهزة الأمن بالخجل من تلعثمها في فك رموز مذبحة كنيسة القديسين، وكان موقفها المخزي من جريمة سمالوط التي ارتكبها رجل أمن وقتل فيها مسن قبطي وأصاب ستة أخرين دليلاً كافياً على عدم حيادية أجهزة الأمن في مصر. سعت وزارة الداخلية فور ارتكاب الجريمة كعادتهما للتغطية عليها وإظهارها على أنها جريمة عشوائية ارتكبها مخبول. لم يتساءل مسئولو الداخلية عن كيفية وجود مخبول بين صفوفهم، ولم يزعجهم حصول مخبول أمني على سلاح رسمي راح يهدد به الآمنين. يريدوننا أن نصدق قصة الخبل. صدقوني لست أدري من المخبول هنا؟ أهو المجرم الذي اختار ضحاياه بعناية أم من يفسرون الجريمة بما ينافي الحقيقة ولا يتفق مع العقل؟

المثير أن أجهزة الأمن التي خبّلت رجلها الذي نفذ جريمة سمالوط راحت بخبل تهاجم الأقباط الغاضبين من استهداف ذويهم ومن التفسير المخبول لوزارة الداخلية. رأى أقباط مدينة سمالوط أن الاعتداء كان عملاً طائفياً لأنه استهدف أقباطاً فقط ولأن الجاني قيل أنه هتف بعبارات إسلامية أثناء إطلاقه النار على المجني عليهم. وكان رد قوات الأمن على الأقباط لا يقل خبلاً عن تفسيرها للجريمة، إذ هاجمتهم بإلقاء القنابل المسيّلة للدموع والحجارة في مشهد أوضح حقاً أن للخبل جذور ممتدة في الجهاز الأمني.

أظهر تفسير أجهزة الأمن لجريمة سمالوط ثم الاعتداء العنيف على أقباط المدينة أن كل الشعارات الوطنية التي رددت بعد مذبحة الإسكندرية لم تكن إلا أوهام لا مصداقية فيها. قد تختلف رؤى البعض عن رؤيتي للأوضاع بعد مذبحة الإسكندرية، ولكني لم أر إلا في ما ندر غير أبواق دفعت دفعاً للحديث عن الوحدة الوطنية وعن شرعية مطالب الأقباط. ودعوني أدلل على رؤيتي بعمل أخر أثار استياء الكثيرين من الأقباط وهو استضافة إحدى القنوات التلفزيونية الشهيرة وأحد الأحزاب، التي كان يعوّل عليها الأقباط، لأحد الذين شاركوا في مظاهرات السلفيين البذيئة التي مهدت الطريق لمذبحة الإسكندرية.

لا أحد في مصر يراعي مشاعر الأقباط النازفة إلا قليلين، وإلا لما تعاملت قوات الأمن باستهتار مع التحقيق في مذبحة كنيسة القديسين، ولما دفعت القوات نفسها بجنون منفذ جريمة سمالوط، ولما تم الدفاع عن الشخصية التي شاركت في مظاهرات السلفيين والادعاء باشتراكه بها للدفاع عن حقوق الإنسان.

الأقباط يريدون للعدالة أن تأخذ مجراها، هم يرغبون في رؤية منفذي مذبحة الإسكندرية وجريمة سمالوط والمخططين لهما والمحرضين عليهما يقفون أمام قضاء عادل لا يتلعثم. الأقباط لا يريدون أبداً أن يتهم أبرياء، هم يريدون المجرمين الحقيقيين. يزعج الأقباط مقتل سلفي في أحد مراكز الأمن من دون الكشف عن أسباب موته وعما إذا كانت له علاقة بالمذبحة من عدمه. مطلب الأقباط شرعي وليس مستحيلاً إن توقفت أجهزة الدولة عن تلعثمها. ولكن هل ستتوقف الدولة عن اللعثمة لحل لغز مذبحة الإسكندرية ولتقديم مجرم سمالوط لمحاكمة عادلة؟ أغلب الظن أن الدولة ستستمر في نهجها الذي يتحدى مشاعر الأقباط. ولذا فإنني ادعو كل قبطي وكل إنسان يؤمن بحقوق إنسانية متساوية لكل البشر للعمل بدأب حتى تتوقف أجهزة الدولة عن لعثمتها، وحتى يتم إلقاء القبض على منفذي مذبحة كنيسة القديسين ومخططيها والمحرضين عليها، وحتى تعترف الدولة بالسلامة العقلية لمنفذ جريمة سمالوط.

[email protected]