كُتب الكثير عن الهجوم الإرهابي على كنيسة القديسين بالإسكندرية، ليلة 31 ديسمبر 2010، ما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى بين جموع المصلّين الأقباط، الذين كانوا يؤدون صلاة رأس السنة الميلادية الجديدة.

هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها القبطي في مصره بشكل خاص، و المسيحي في شرقه بشكلٍ عام، للقتل والتكفير والتهجير، والتهديد والوعيد بمحوه وإبادته عن بكرة أبيه.
ولكنها، مقارنةً مع سابقاتها من الحوادث الإرهابية التي ارتُكبت بحق الآخر المسيحي في شرقنا المسلم، ربما تكون الحادثة الأولى التي يحظى فيها المسيحيون، بهذا القدر الكبير من العطف والإسترحام العربي والإسلامي، رسمياً وشعبياً.
دولٌ عربية كثيرة كالمملكة العربية السعودية والأردن وسوريا، ومؤسسات إسلامية كبيرة، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي ودار الإفتاء والأزهر الشريف، أدانت بشدة حادث الإعتداء الإرهابي الأخير على أقباط مصر.
هذه الإدانات الدولية، لا سيما العربية والإسلامية منها، قد خففت، والحق يُقال، بعضاً من مصاب الأقباط الأليم، وهدّأت فورتهم، وأنقذت مصر من فتنةٍ كبيرة، كان يمكن لها أن توقع بين مصر ومصر أكثر.

البعض الأكبر من المنددين بالحادثة والمستنكرين للقائمين عليها، ركب quot;نظرية المؤامرةquot; كالعادة، ووجه أصابع الإتهام إلى quot;العدو الأزليquot;، quot;الوجوديquot; إسرائيل، التي هي بحسب دعاة هذه النظرية الجاهزة تحت الطلب، كل السبب في مشاكل كل المسلمين وكل العرب.

بعضٌ من علماء الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية مثلاً، ممن استنكروا الحادث بشدة، أكدوا quot; أن تلك الأحداث وراءها أيادٍ خارجية وليست داخلية، وأن الموساد الإسرائيلي والإدارة الأمريكية ليست بمنأى عن تلك التفجيرات ومحاولات الوقيعة بين المصريين مسلمين وأقباطquot;.

ولكن لماذا إسرائيل، وكيف إسرائيل، وأين إسرائيل، ومع مَن وضد مَن إسرائيل، وإلى متى إسرائيل، وإلى أين إسرائيل، فالجواب هو كما دائماً، واحد أحد: quot;إسرائيل عدوة وكفىquot;..عدوة لمصر وللمصريين أقباطاً ومسلمين، رغم كل اتفاقيات السلام الموقعة بين الطرفين، ورغم الزيارات والبعثات الديبلوماسية، وعلى أعلى وأرفع المستويات بين فوقي البلدين.

نعلم أنّ إسرائيل لم تفه حتى الآن بquot;طز واحدةquot; ضد جارتها مصر، منذ الأول من سلامها معها، تحت قيادة الرئيس الراحل أنور السادات سنة 1979،، وإنما الذي أطلق ضد مصر والمصريين، أكثر من quot;طزquot; وأكثر من مرة، هو مرشد أخواني رفيع المستوى، من داخل مصر، ويمارس حزبه السياسة فيها طولاً وعرضاً، ومن أولها إلى آخرها.
الذي قالquot; طز في مصر..وأبو مصر. واللي في مصرquot;، هو المرشد السابق للأخوان المسلمين محمد مهدي عاكف. لماذا؟
لأن الإسلام، في رأيه ورأي الماشين على خطى إيديولوجيا حزبه(الإخوان المسلمين)، هو الحل الأوحد والنهائي لكل مصر وأخواتها المسلمات، ولأن quot;لا مانع لديه أن يحكم مصر غير مصري طالما هو مسلمquot;.

والذين أقدموا قبل 11 سنة، بقتل 20 قبطي وجرح 23 آخرين، في 31 ديسمبر 1999 في منطقة الكشح بجنوب مصر، كانوا مصريين من قلب مصر(لا غرباء من إسرائيل وربيباتها)، أرادوا بعنفهم وعصبيتهم الدينية، أن تكون مصرهم quot;نقيةً خالصةًquot;، خاليةً من كل quot;شائبة مسيحيةquot;، أو أية شائبة دينية أخرى.

والذي حرّض المسلمين عبر ميكروفونات الجامع، للهجوم على كنيسة السيدة العذراء والأنبا أبرام بمنطقة عين شمس القاهرة، في 23 نوفمبر 2008، كان إماماً في مسجدٍ مصري(مسجد النور مقابل الكنيسة)، الأمر الذي دفع بآلاف المتعصبين المصريين(دون غيرهم)، تحريضئذٍ، إلى حصار الكنيسة والقيام بأعمال عنف ضد المصلّين فيها، مرددين شعارات متطرفة من قبيل quot;خيبر خيبر يا يهود..جيش محمد سوف يعودquot;، وذلك تعبيراً عن غضبهم ورفضهم quot;الوجوديquot; لquot;وجودquot; الكنيسة في المنطقة.

والدستور الذي يخلط الدين بالسياسة، ويصنع من السياسة ديناً ومن الدين سياسةً، ويديّن الدولة والمجتمع والشارع والمدرسة والجامعة، ويجعل من الدين طريقاً تمشي عليه الحكومة، أو صراطاً مستقيماً يسير عليه القانون؛ هذا الدستور الذي لا يترك الدين ليكون لله ولا الوطن ليكون للجميع، هو دستور مصري، وليس إسرائيلي.

والقانون الذي يفرّق بين quot;إله الكنيسةquot; وquot;إله الجامعquot;، الذي هو إله واحد لكل العالمين، ويعطي الحق(كل الحق) للجامع بالتوسع والإمتداد في أرض الله، على حساب حق الكنيسة، هو قانون مصري، مستوحى من قانون quot;الباب العاليquot;، زمان الحقبة العثمانية، لا من القانون الإسرائيلي.

هذا غيض من فيض، مما تعرض ويتعرض له الأقباط في مصرهم من مصرهم.

المتتبع لتاريخ الأقباط في مصر، ولتاريخ قتلهم المستمر والمستغرق فيها، سيرى بأنّ مشكلتهم أبعد من أن تكون لإسرائيل وأخواتها الخارجيات يدٌ فيها.
الأقباط في مصر كانوا ولا يزالون مستهدفين، من الداخل المصري قبل خارجه، ومن لدن الشارع المصري نفسه، قبل الشوراع الخارجية، المكشوفة أو الخفية.
السبب إذن، هو في قلب مصر، لا في أطرافها؛ وفي دستور مصر، لا في دساتير جاراتها؛ وفي قانون مصر، لا في قوانين الآخرين؛ وفي ناس مصر الأقربين، لا في الجيران ولا في الناس الأبعدين.

مشكلة أقباط مصر، هي مشكلة، من داخل مصر، ومن مصر إلى مصر: أنها مشكلة سياسة مصر، وثقافة مصر، واجتماع مصر، وقيام وقعود مصر.

المشكلة القبطية، هي مشكلة مصرية، أولاً وآخراً: مشكلة بنيوية، مستقرة في بنى الثقافة والإجتماع والسياسة. أنها مشكلة قابعة في قاع مصر والمصريين، تطفو آثارها، بين حينٍ وآخر، على سطح الحياة السياسية وما حواليها من حيوات متجاورة.
مشكلة الأقباط، الذين يشكلون أكثر من 10% من سكان مصر البالغ تعداده حوالي 80 مليون نسمة، هي مشكلة كلّ مصر وكل المصريين، مسلمين ومسيحيين.
هي مشكلةٌ قديمة جديدة، وقادمة أيضاً، ستبقى مفتوحة على كلّ الإحتمالات، ومحفوفة بأكثر من خطر داخلي أو خارجي، طالما بقي الداخل المصري، سياسةً وثقافةً واجتماعاً، نائماً في quot;سابع نومةquot;، على فتنته غير النائمة.


[email protected]