هرب الطاغية وترك وراءه افواجا من اللصوص والقتلة، كما فعل مثيله قبل سنوات هنا على ارض الرافدين حينما اطلق سراح كبار المجرمين والسفاحين والسراق والقتلة قبل هروبه بعدة اشهر، لكي يكملوا المشوار من بعده، فيما اوصى اركان حكمه وقيادات نظامه بسرقة ونهب كل موجودات البلاد ومخازنها ومعسكراتها في ابشع عملية إفراغ للدولة من مكنوناتها المادية والوثائقية والفنية والمتحفية؟

وفي الوقت الذي انكفأ دكتاتور العراق في حفرة تحت الأرض ليواري عورته وجرائم نظامه، حلق دكتاتور تونس في الأجواء تاركا منظومة متكاملة ممن يستكمل اغتيال الثورة او الانتفاضة، حيث بدأت فرق الغوغاء بالانتشار في المدن والبلدات على طول البلاد وعرضها لكي تثبت لتلك الجموع الثائرة ودول الجوار قبل غيرهم بأن ما يحدث هو نتيجة لغياب منقذ الأمة ومخلصها الهارب، كما يفعلون في العراق منذ سبع سنوات ونيف في إحراق الأخضر واليابس تحت مختلف الشعارات الرنانة والجوفاء، وهم يستهدفون الأهالي العزل في الشوارع والأسواق والمساجد والكنائس.

صحيح ان دكتاتور تونس شد الرحال هاربا الى جنة اخرى بعيدة عن قصره وعبيده الا انه ترك نظاما اشرف على تربيته وصناعته لأكثر من عشرين عاما بذات الفكر والنهج كما فعل النظام هنا في العراق وترك سلوكيات ونهج في الثقافة والتفكير تعمل على إبطاء التقدم وتعرقل تحقيق الأهداف النبيلة في بناء عراق ديمقراطي حر.

ان مجرد هروب دكتاتور لا يعني انجاز الثورة او التغيير المرتجى فما زالت قوى هذا الدكتاتور وغيره مهيمنة على كثير من المفاصل المهمة في الدولة والمجتمع وما زالت تحدث تغييرات بالاتجاه الذي تريده هي وليست اتجاهات الأهالي، فكل مؤسسات الدولة في تونس هي من إنتاج وتصنيع ذات الفكر الشمولي الذي صنعه الدكتاتور الأول بورقيبة ومن انقلب عليه لاحقا قبل عقدين من الزمان صنيعته علي زين العابدين، ابتداءً من المؤسسة العسكرية والأمنية وانتهاءً بالبرلمان وكثير من اوساط الطبقة المتوسطة في تونس.

ومع كل الاحتمالات الواردة فان ما يحدث الآن يؤشر تطورا في الأداء الشعبي في الدول ذات الأنظمة الشمولية وهي بالتأكيد واحدة من اولى ردات الفعل لعملية التغيير الجارية هنا في بلاد الرافدين بكل ما شابها من اخطاء او تشويهات من قبل معظم اجهزة الاعلام العربية التي تنتمي لعقلية النظام الشمولي.

ويقينا ان ما يجري هنا في العراق من عمليات ارهابية وتعقيدات لتأخير او اعاقة تطور العملية السياسية والبناء الديمقراطي انما تتورط فيه كثير من هذه الانظمة ذات النهج الشمولي لكي تنأى بنفسها وانظمتها عن نيران التغيير التي تصب في خانة الشعوب وتعيد تعريفات كثير من المصطلحات والتسميات لكي لا يكون الرئيس موظفا يؤدي خدمة عامة حاله حال أي موظف آخر، بل ليبقى كما يريدوه في كل هذه المنطقة زعيما ومنقذا وملهما فوق الشبهات والشك والنقد، لا شريك له ولا معترض!؟

ان ما يحصل اليوم في تونس يمثل رسالة مهمة جدا لشعوب هذه المنطقة بعد ان ذاقت الأمرين من حكم الطغاة المستبدين لعشرات السنين وهي تبشر ببداية عمليات تغيير واسعة النطاق في معظم هذه البلدان، ترافقها عمليات تشويه وصراع خفي لؤد الحركة او تقزيمها من خلال ما يحدث من تداعيات امنية تقوم بها اجهزة الامن المرتبطة بنظام الحكم كما حصل هنا في العراق طيلة سبع سنوات بالتعاون مع مخابرات واجهزة تلك الدول المعنية، محاولة اغتيال الحركة او الانتفاضة بشتى الطرق والأساليب، ولعل اولى بوادر ردود الأفعال في الجوار او قربه ما تعلنه تلك الانظمة من احداث تغييرات اقتصادية او امنية لمنع تكرار ما يحصل في تونس على اراضيها وبين شعوبها، محاولة تشويه الأحداث في تونس وقبلها في العراق لإعطاء شرعية لبقائها او تخويف الأهالي من مغبة سقوطها؟

[email protected]