عنوان المقال هو المصطلح الذي يطلق على فئة من الناس يصعب الوصول إلى أهدافهم أو تشخيص غاياتهم، وإذا ما تأملنا الأحداث التأريخية التي مرت بها الأمة يظهر أن لهؤلاء الناس واقعاً مخالفاً للمؤمنين من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يمت إلى الكافرين بأية صلة، اللهم إلا الاشتراك الفعلي في مفهوم المعصية، وإن كانت المصاديق مختلفة في الجوانب التي تطابق أفعال كل منهما. وعند متابعة الواقع المتقابل بين الكفار والمؤمنين نجد أن مسلماته لا تدعو إلى الغموض، وإن شئت فقل إن خطر الكفار ربما يكون معلوماً ولا يحتاج إلى إطناب أو طرح يهدف إلى إزالة أسباب ما خفي من أمرهم.

أما أصحاب المصطلح الذي هو موضوع بحثنا فهؤلاء قد يحتاج المجتمع في كشف أغراضهم إلى أدوات تفوق الأدوات البشرية التي لا يمكن أن تدخل إلى نفوسهم، أو معرفة بواطن الاتجاهات التي يتفرقون فيها ومنها، وذلك بسبب المضمر المخالف لطبيعة ما يظهر على ألسنتهم، فهؤلاء قد يعلنون الإيمان من جهة ويبطنون الكفر من جهة أخرى. فإن قيل: ما هي الأهداف التي تجعلهم يأخذون هذا الاتجاه؟ أقول: يمكن تلخيص أهدافهم بعدة نقاط أهمها:
أولاً: الحصول على الأمن والاستقرار الذي يوفره المجتمع لأتباعه.
ثانياً: الحقوق التي يحصل عليها أبناء المجتمع.
ثالثاً: عدم الالتزام بالواجبات التي تفرض على أقرانهم.
رابعاً: التفريق بين أبناء المجتمع بطريقة أقرب إلى الخفاء مما يجعل الفرص مفتوحة أمامهم للسيادة التي فقدت من أقرانهم جراء أفعالهم.
خامساً: الوصول إلى مرتبة الحل والعقد بعد أن فقدت من الطرف الآخر.
وهذه الأفعال لا يمكن تعليلها أو كشف مصادرها، وذلك لأسباب تتعلق بالحالة المريبة التي تلازم غاياتهم التي يبحثون عنها.

وبناءً على طريقتهم الجائرة هذه نجد أن الإطناب المتفرق في القرآن الكريم قد أظهر الكثير من الملامح والصفات الخاصة بهم، لأجل أن يكون الناس على حذر من أفعالهم في كل زمان ومكان، ولهذا فقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى نعوتهم وصفاتهم ابتداءً من قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام***وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) البقرة 204-205. والفرق بين قوله وفعله لا يحتاج إلى بيان، وكذا قوله: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون***وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) المنافقون 3-4. وقد بين الله تعالى طريقتهم التي يتعاملون من خلالها مع النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; وذلك في قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) التوبة 58.

ثم بين سبحانه عدم صدقهم مع أهل الكتاب، وذلك في قوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون) الحشر 11. بعد ذلك أشار سبحانه إلى سماتهم الخاصة والتي يمكن أن تشخص الحالات الملازمة لهم، كما في قوله: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) القتال 30. ولولا هذا التشخيص الذي بيّن صفاتهم، لا يمكن الوصول إلى غاياتهم أو معرفة أهدافهم، وهذه من الفوائد العظيمة التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان من كتاب الله تعالى باعتباره منهجاً للحياة بكل تفاصيلها، ومن خلال هذه الجزئية نستطيع القول إن الذين يظنون أنهم قادرون على الاستغناء عن القرآن الكريم، فهؤلاء لا يفقهون التفاصيل التي أنزلها الحق سبحانه وجعلها متممة للكتاب الكوني الذي يعيشه الإنسان واقعاً.

وبناءً على مجريات هذا الواقع فقد نرى مدى التناسب العكسي بين أتباع الكتاب المدون وبين الفئة التي هي موضوع بحثنا في هذا المقال. فإن قيل: ماذا عن أتباع القرآن الذين يعملون عمل الناس الذين تحدثت عنهم؟ أقول: إن الذين يتمسكون بالقرآن ظاهراً لا يمكن نسبتهم إلى المؤمنين، بل هم من أشرنا إليهم في بحثنا، ولا تخفى عليك أسماء الذين يعملون باسم الدين إلا أنهم لا يمتلكون المؤهلات اللازمة للمنهج الرباني، وذلك بسبب ابتعادهم عن التعاليم القرآنية، ولما يصل المجتمع إلى هذه المرحلة فقد تنقلب الموازين التي يعتقد بها، ولهذا يستقر لديه الرياء والغدر دون الإخلاص والأمانة، وصولاً إلى العلماء الذين تكون الدنيا كل همهم، والعبادة لا تستقيم لديهم إلا بوسائط التشهير. وعند تأمل هذا الاتجاه نجد أن له جذوراً ضاربة في القدم من قبل أناس وصفهم الحق سبحانه بقوله: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) البقرة 8. حيث أن إيمانهم لا يتعدى إلى أكثر من أقوالهم، ثم أضاف تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) البقرة 9. والمخادعة quot;مفاعلةquot; بين أكثر من جهة لذا وردت بهذه الصيغة التي عادت عليهم بالضرر المتمثل في خداعهم لأنفسهم دون شعور منهم، وقد وصف الحق فعلهم هذا بأنه مرض في قلوبهم، وذلك في قوله: (في قلوبهم مرض) البقرة 10. أي مرض النفاق الذي لا يشفى منه الإنسان إلا بإصلاح نفسه، ولهذا قابلهم تعالى بقوله: (فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) البقرة 10. ثم انتقل سبحانه إلى حالة أخرى من حالاتهم وهي ادعاء الإصلاح، وذلك في قوله: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) البقرة 11. ثم عقب تعالى بقوله: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) البقرة 12.

فإن قيل: ما وجه الجمع بين قوله تعالى quot;ولكن لا يشعرونquot; وبين ما يصدر من أفعال معلومة لديهم؟ أقول: تنقلب الموازين عند الإنسان الذي يمارس الرذيلة، حتى يسمي الأشياء بغير الأسماء التي وضعت لها دون شعور منه، وفي حالة تكراره لهذا النهج تصبح أفعاله أقرب إلى الحقائق المصدقة، ولهذا تجد أن السياق قد بين هذه الأفعال بالتدريج، وصولاً إلى قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) البقرة 13. ثم ذكر تعالى حالة الاستهزاء الملازمة لهم وتظاهرهم بها أمام أسيادهم الذين وصفهم الحق سبحانه بـ quot;الشياطينquot; في قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) البقرة 14. ومقابلة لهذا الاستهزاء أجابهم تعالى بقوله: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) البقرة 15. وقبل أن يضرب لهم الأمثال أشار quot;جل شأنهquot; إلى خاتمة أمرهم بقوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) البقرة 16.

* من كتابنا: القادم على غير مثال


[email protected]