أتذكر مرة وبالتحديد في سنوات الخوف والقحط والحاجة التي كانت تلبد سماء العراق وتزرع اليأس في مستقبل مجهول للعراقيين إبان الحكم الشمولي الديكتاتوري في منصف تسعينات القرن الماضي واثر الاحتجاجات الصامتة المقهورة إزاء ما يحدث وتزايد أعداد المهاجرين باتجاه الدول المجاورة التي كانت تأن من الأعداد المليونية الهاربة من جحيم الأفران الملتهبة وعيون عسس السلطة، قالت زوجة الدكتاتور في حينها لجليستها المتملقات ذات الكروش المنتفخة في قصر الرضوانية ( ليخرج العراقيين جميعا إذا رغبوا حيث يشاءون )، لكنها استدركت فقالت (مليون منهم أو أكثر بقليل نحتاجهم ليقدموا لنا الخدمة التي نحتاجها، إما الباقيين فإلى الجحيم ).

هذا كلام منقول عن مجلس quot; أم عدي quot; عبر بعض من كان يجالسها، وطبعا يعرفه الداني والقاصي من العراقيين جميعا وسمعوا به وسكتوا على مضض لأنهم يعرفون إن نظاما قاسيا لا يمكن أن يسكت على امتعاض أو إشارة عابرة بسيطة من مواطن محتج إلا وغاب في غياهب قافات الخاصة بسجون أبو غريب، وربما قد تجد جثته في إحدى المقابر الجماعية المنتشرة في بغداد والمحافظات.

وقد يتساءل بعض من العرب سؤالا منطقيا، لماذا انتم العراقيون تشتكون وتولون من نظام قهركم وتسلط على رقابكم دون أن تسعوا للتخلص منه كما تفعل الشعوب الأخرى، ولعل ما حدث في تونس أخيرا دليل ومثال حي على أن الشعوب قد تمرض لكنها لن تموت طالما أن الظلم يمس حياتها ويطبق على رقابها الموت، أقول نعم كلام فيه من المنطقية والحقيقة، لكن أحيانا وأنا لا أريد أن أدافع هنا عن شعب عظيم له سجل تاريخي طويل بالنضال من اجل حريته ووطنيته، المشكلة إن النظام السابق رهن الأجهزة الأمنية تحت إمرته من خلال هيمنة عائلته على مراكز القرار بما فيها القوات المسلحة التي كانت لا تتوانى بذبح المواطنين المحتجين والرافضين للسلطة، وهناك أمثلة سواء فيما حدث في كربلاء والنجف والبصرة أو في اهوار الناصرية والعمارة، وما حدث أيضا في مدينة الرمادي الباسلة حينما تدخلت قوات الأمن بقمع تظاهرة ضد النظام بعد إعدام احد أبنائها،ومع كل هذا الطوق الأمني فان للعراقيين مواقف في التصدي سواء لرأس النظام أو أعوانه في السلطة، وقد ذكر الكثير منها ولا مجال لتكرراها.

لقد ابعد الدكتاتور الجيش النظامي الوطني عن بغداد حتى وان كان له مرور فيها فانه يدخلها مجرد من أسلحته وعلى أطراف المدينة، فيما حشد أقرباءه لولاية فرق قوات الحرس الجمهوري والحرس الخاص وقوات الطوارئ لحمايته والتي كانت هي من تقوم بقمع أي حركة احتجاجية أو تظاهرة سلمية، وحينما اغتيل أية الله محمد محمد صادق الصدر وعلم العراقيين باليوم التالي بالخبر شهدت مدينة الصدر quot; الثورة سابقا quot; تظاهرة احتجاج قوية من المواطنين العزل، سرعان ما طوقت المدينة بهذه القوات وضربت بقسوة كل المحتجين بالرصاص الحي، ومن ماسي ذلك اليوم أن طالبات مدرسة ابتدائية للبنات حينما اندلعت المواجهات هربن نحو بيوتهن فتصدى لهن حرس النظام واسقط منهن قتلى في موقف يندى له الجبين، كما أن موقف هذه القوات من الانتفاضة الشعبانية عقب هزيمة حرب الخليج الثانية وقمعها بكل قسوة وصلت إلى حد الإعدام الفوري.

نعم كان هذا الحرس الذي اغد عليه الدكتاتور الهدايا والرتب أقسى حتى من النظام نفسه على شعبه، فلو كان العكس وحتى لو كان حياديا كما كان موقف الجيش التونسي اليوم لكان النظام برمته قد أسقطه شعبنا أو لولى هاربا مع عائلته إلى خارج الوطن.

يقول صديقي الفنان المخرج المسرحي علي عبد الحسين والذي نلقبه دائما quot; علي جنح quot; لسرعته وأدائه الجميل لأدواره في المسرح في كلية الفنون الجميلة، انه كان شاهد حي بما حل في مدينته كربلاء أبان التصدي للمنتفضين في ضد النظام، الموت والخراب والقتل والرعب من قادة هذا الجيش هذا، حتى الأطباء ممن كانوا يعالجون المصابين فأنهم يعدمون فورا مع المصابين دون محاكمات.

ويصف لي في كثير من الحزن يوم quot;المحشرquot; في معسكر الرضوانية ببغداد حينما اصطف جنود قساة ببنادقهم يثقبون أجساد المنتفضين بالرصاص والكثير منهم أبرياء، كان القائد العسكري الذي نعرف هويته من كلامه ينادي بأسماء الجالسين المرعوبين للذبح دورا يلي دور، ولنجاته قصة طويلة من هذه المذبحة الدموية التي ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية بعد مقتل الآلاف بهذه الطريقة البشعة، نجا صديقي علي لكنه ترك اثنين من أشقاءه يموتون بهذه الطريقة.

هذه حقيقة ما كان يحدث، فلا تشابه بيننا والعالم، كنا نتلقى القسوة من جبروت النظام وأزلامه سواء في هذه القوات التي نذرت نفسها له ولمصالحها الخاصة، ورجال الأمن والمخابرات الذي يخنقون الكلمة الحرة والمواقف الوطنية في السجون وسراديب الظلمة.