عندما قرر بن علي أن تكون سنة 2010 سنة دولية للشباب، لم يكن يدرك ان هؤلاء الشباب سوف ينقلبون عليه و يطردونه شر طردة. كان بن علي و مستشاريه الأغبياء يعتقدون أنهم سيستعملون ورقة الشباب للترويج الخارجي، مثلما فعلوا سابقا في قضايا مكافحة الإرهاب و حوار الحضارات و الانفتاح، مقابل ان يغمض الغرب عينيه على تجاوزات النظام، ككل مرة.وكان النظام البائد يتوهم بأن تنتهي سنة الشباب بهدية دولية او وسام، ربما من الأمم المتحدة او الإتحاد الأوروبي، او ربما من جمعيات مغمورة، تقتات من بركات الدكتاتوريات المريضة.

لم تجر الرياح بما تشتهي سفينة الرئيس المخلوع الذي عاد من عطلته السنوية من جزر المالديف او دبي كما يشاع، في أواخر ديسمبر الماضي، ليجد هدية مميزة، قدمها له شخص لم يكن quot;بن عليquot; يدرك انه مسجل في دفاتر الولادات بتونس، انه الشهيد البوعزيزي نفسه. لكن الدكتاتور لم يرعوي حتى بعدما اخبروه ان هذاquot;المواطن التونسيquot; احرق نفسه نتيجة ظلم الإدارة و قهر المسؤولين الذين عّينهم، و كان رده لمستشاريهquot;فاليمت quot;...يا سلام على حب بن علي واهتمامه بالشباب !!
لم يدرك quot;بن عليquot; ان الشاب الشهيد محمد البوعزيزي، كان يحمل حرقة جيل من الشباب بأكمله، و ان هذا الجيل بدأ يتحرك و يتخلص من الطغيان، و كيف يمكن له ان يدرك ذلك وقد وضع نفسه داخل كرة بلورية، متصورا ان العالم يقف عند حدود زجاجها الرقيق.

كان الدكتاتور الفار يوزع الاستشارات الشبابية و الدراسات(المهتمة بالشأن الشبابي، كما كانوا يردّدون) كمن يوزع الصحف المجانية، فالمحتوى بالمجان مقابل تلميع صورة الدكتاتور و الترويج لسلعة سريعة التلف، لذا فمن المحبذ استهلاكها قبل نفاذ مدة الصلوحية اي 2010.

كم أكلنا و شربنا استشارات شبابية حتى خرجت من أنوفنا دون ان يتغير شيء فلا البطالة تقلصت و لا العنف تراجع ولا هم يحزنون. و الغريب ان كل هذه الاستشارات كانت تخلص الى ان الشباب غير مهتم بالشأن العام و لا يطالع و غير مثقف الخ الخ، لكن اجهزة الدكتاتور لم تجب يوما على سؤال quot;لماذا؟quot; لماذا لا يهتم الشباب بالسياسة لماذا لا يطالع لماذا استشرى العنف في الوسط الشابي لماذا اصبحت المقاهي ملاذه الأول و الأخير. و كأن بن علي لا يعلم كيف يلاحق الساسة في اقاصي الأرض و كيف يتم تشريدهم و تجويعهم حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر؟ و كأنه ليس هو من سلط زبانيته على كل من تسّول له نفسه، ليس الانخراط في الأحزاب السياسي، و إنما فقط لمجرد الاتصال بمعارض او قراءة صحيفة مغضوب عليها؟ الم ترهب أجهزته الشباب المسّيس و تلاحقه في لقمة عيشه؟ أم هل quot;غلّطوهquot; كما ادعى في خطاب الوداع. ببساطة كان الشباب بالنسبة للنظام البائد هو رديف التطبيل و التزمير و حمل المباخر، اما المشاركة السياسية فهي تعني الانخراط في التجمع الدستوري او في واحدة من 9000 آلاف جمعية كرتونية.لا اكثر و لا أقل.

الحديث بكثافة عن الشباب بدأ مع نهاية 2008، اي بعيد أحداث سليمان التي تورط فيها شباب في مواجهة مسلحة مع السلطة، في حادثة ما يزال يكتنفها الغموض. لكن ليس هذا السبب الرئيس للاهتمام بمسألة الشباب،فقد بدأت أسهم صهر quot;بنعليquot; محمد فهد صخر الماطري في الصعود، و بدأت العائلة المالكة تنظر إليه كرئيسquot; ممكنquot;. لكن الصهر الذي لم تكن له أية خبرة سياسية كان لا بد له ان يتلقى دروس مكثفة في العمل السياسي و هي مهمة تكفل بها المستشار السابق و أحد صقور النظام و مهندسيه، عبد العزيز بن ضياء و امين عام التجمع محمد الغرياني، و كان العمل يجري على قدم و ساق من أجل تنقيح الدستور بعد 2014، للتخفيض في سن الترشح لأنه حتى في حال ترشح بن علي في 2014 و بقي في السلطة الى 2019، فإن سن صخر الماطري لا يمكنه من الترشّح للرئاسة، لكنه سيتمتع بدورتين في مجلس النواب تكسبه خبرة و معرفة بكواليس السياسة. اما قضية مشاركة الشباب التونسي في الشأن العام، فهي مجرد صورة دعائية خاوية من أي مضمون جدي.

في الأثناء كان الشباب يحتج على الإنترنت، و كان مخاض الثورة يطبخ في أروقة الفايسبوك و المدونات، و ظهر شكل جديد من الاحتجاج تمكن من استقطاب آلاف الشبان الذي أظهر قدرة فائقة في التنظيم و مراوغة عين الرقيب. و لما قامت الثورة، لم يكتف هذا الشباب بالمشاركة في التظاهرات، و انما نقلها مباشرة الى كل العالم، مسكرا حاجز الإعلام التقليدي و فاضحا ما اجتهد النظام في إخفاءه طيلة ثلاث و عشرين سنة. في الخطاب الأخير حاول بن علي مرة اخرى سرقة ثورة الشعب بالتوّسل حينا و التعّهد أحيانا أخرى، لكن الأوان قد فات، وانقلب السحر على الساحر.

تونس
[email protected]