احتاج زين العابدين بن علي إلى ثلاثة وعشرين سنة كي يفهم الشعب التونسي ويتعرف عليه، لكنه لم يستيقظ من جهله بالشعب إلا في الوقت الضائع وبعد أن امتلأت شوارع تونس بالمتظاهرين الثائرين ضد القمع والاستبداد والفساد. وقد اعترف بن علي بالأخطاء التي جعلت الشعب يثور وهو اعتراف متأخر، وقد شكا من بعض المسئولين الذين وثق فيهم واخفوا عنه الحقيقة لكنها جاءت شكوى متأخرة أيضا، وكأن فخامة الرئيس المخلوع كان تحت تأثير مخدر خلال عقدين وثلاث سنوات من عمر رئاسته، لكن اعترافاته بالأخطاء وان جاءت متأخرة تعتبر عبر ودروس لكل حاكم عربي يعيش نفس وضع الرئيس التونسي من حيث عدم الفهم لمطالب شعبه وانعزاله التام عن الواقع خلف مستشارين ووزراء غير أمناء، وقد لخص بن علي تلك الأخطاء في غياب الديمقراطية وحرية الإعلام التي بسببها ارتفع عدد العاطلين عن العمل وارتفعت الأسعار وانتشر الفساد وسيطرت عصابة من أقارب ومعارف الرئيس على مقدرات الشعب. وليعلم كل الحكام العرب أن تونس نموذج مصغر جدا للدول العربية الأخرى التي تزداد أوضاعها فسادا، في ظل غياب القوانين والأنظمة والإعلام الحر والقضاء العادل، مما جعل عصابات اللصوص يسيطرون على ثروات الشعوب ويحاربون كل صوت شريف.

تغيب الديمقراطية فيغيب معها الإعلام الحر القادر على فضح ممارسات الفساد وأوكار العصابات المافيوية، ويفسد التعليم، والصحة، والقضاء، والأمن، ويتحول الشريف إلى مدان، واللص إلى نجم، ويتبوأ الفاشلون والمأجورون والمرتزقة ومعوقوا الفكر والمعرفة والثقافة مراكز القيادة.

يعتقد بعض الحكام الدكتاتوريين أن الشعب المتعلم المتعافي خطر يهدد النظام، مما يجعل الحاكم المتوجس يتعامل مع الشعب كعدو، وينسى أن الشعب العدو يشعر للحاكم بنفس الشعور العدائي، بينما لو نظر الحاكم الدكتاتوري لشعبه نظرة حانية وحرص على تعليمه التعليم الجيد، وجلب له مقومات الصحة الجيدة، والبيئة النظيفة، لكسب قلوب الشعب حتى وهو يفتقد إلى النظام الديمقراطي الذي يشعر فيه الانسان بكرامته وحريته. لكن الدكتاتور يعتقد أن في تجهيل الناس ما يجعلهم غير قادرين على التفوق عليه، وان في الاستهتار بصحتهم ما يجعلهم غير قادرين على مواجهته بقوة، وان في خلق الصراعات بين أفراد الشعب ما يجعلهم ينشغلون عنه. لكن الدكتاتور كعادة كل الدكتاتوريين على مر التاريخ لايتعلم من عبر الذين سبقوه سواء كانوا من صنف شاوسيسكو او صدام او بن علي، ويظل الدكتاتور متمسكا بالسلطة حتى وهو يقبض عليه في حفرة، او وهو يغادر هاربا على طيارة او حمار او تاكسي.

الدكتاتور : متخلف عقليا ونفسيا، لكنه أمر مؤلم أن يستيقظ شعب بعد عقود طويلة ليدرك انه كان يخنع تحت حكم حاكم مريض، مما يثير أسئلة كثيرة حول الناس أنفسهم الذين خضعوا لحكم الدكتاتور ويكون محور الأسئلة يدور حول نفسية الشعب وحقيقة فكره وثقافته التي جعلته يسلم أمره إلى النوع المريض من الحكام المستبدين الذين لايشبعون من مال مسروق ولا من تسلط جائر بأدوات حقيرة من رذلاء القوم الذين يعشقون أن يكونوا سوطا في يد المستبد ونعالا في رجله. وعندما تحين ساعة هروب الطاغية او شنقه لايجد من أولئك الأدوات الرخيصة من يدافع عن سيده المستبد ليبقى الحاكم وحيدا وقد ظلم نفسه قبل أن يظلم الشعب عندما رهن نفسه وحكمه للمرتزقة والمأجورين من حقراء الشعب الذين لايملكون كفآت ولا فكر ولا يحملون مسئولية ولا يتصفون بأمانة.

والغريب : أن كل دكتاتور يقنع نفسه بأنه على الشعب أن يتقبل تسلطه واستبداده وظلمه أو فليتهيأ الشعب إلى الانقسام والتحارب بعد زوال الدكتاتور وقد ملأ نفوسهم بالأحقاد ضد بعضهم البعض، لكن الدكتاتور ينسى انه مهما غرس من أحقاد وإمراض وصراعات فان الانسان يتعلم من الدروس ويعيد بناء نفسه وحياته برغم الأثمان التي دفعها والدماء التي سالت من اجل حريته.

ويستغل الدكتاتور جهل الشعب ليثير مخاوف الناس من مستقبل مظلم إن هم تمردوا على سلطته. لكن الدكتاتور لو كان ذكيا لسعى إلى مشاركة الشعب في بناء مستقبل زاهر يتخلى فيه عن الحكم ويعطي للشعب فرصة أن يختار حاكمه. ولو ذهب صدام او بن علي في حكمهما لشعبيهما إلى ما يؤسس لبناء شعوب حرة وبلدان مستقرة لبقي صدام او أسرته مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، ولما ذهب بن علي هاربا يبحث عمن يؤويه وهو مذعور وسط أسرته التي تشاركه الفجيعة وهي تراه حزينا كئيبا.
لو يرتقي وعي الطغاة قبل أن يسحلوا او يطردوا لتعلموا من الزعماء الذين حكموا شعوبا ديمقراطية ولا يزالون مواطنين بين شعوبهم بعد أن أدوا أدوارا قيادية في مراحل محددة، وهانحن جميعا نرى كارتر وفورد وكلينتون وبوش الأب والابن وشيراك وغيرهم يعيشون كمواطنين عاديين في بلدانهم وقد كانوا زعماء تهز قراراتهم كل العالم. أما الطغاة الصغار فلا يرهبون سوى شعوبهم المجهلة بتعليم لا ينتمي إلى حضارة العصر وبفكر يعادي كل جديد وجميل ومبدع.

لو كل حاكم دكتاتور تخلى عن نزواته وعقده وحبه للتسلط والاستبداد وعمل على إصلاح أخطاءه وصدق مع شعبه قبل أن يثوروا عليه لسامحه الناس على أخطاءه وظلمه ونهبه للثروات، لكن الدكتاتور عنيد لايصغي لغير نفسه التي لاتزال تحتفظ ببقايا طفل غير سوي بسبب أوجاع تربوية مزمنة، وعندما يتعرض لأول محاولة للكسر يكون هشا أكثر مما يتوقعه الناس فيزدادون له احتقارا.

لو كنت دكتاتوريا في القرن الواحد والعشرين وأشاهد ثورة التونسيين لأمرت بإطلاق كل المظلومين من سجونهم، ومنحت الإعلام حرية التعبير دون عوائق او موانع، وأحلت كل ممارس للفساد السلطوي والمالي للعدالة تمهيدا لحكم ديمقراطي نزيه يشرف عليه برلمان منتخب يمثل كل أطياف الشعب دون قسر أو إقصاء لفئة دون أخرى ثم تمتعت بالعيش في بلدي وهو ينعم بالحرية.

على كل حاكم عربي سواء كان دكتاتورا طاغية او مستبدا عادلا كما يقول العرب أن يعي أن هذا عصر ثورات الشعوب العربية التي لن ينفع معها القمع بكل اشكالة وقد أصبحت الحياة العربية لا تطاق في زمن الانفتاح الفضائي والانترنتي والعولمي ولن ينفع التمسح بعباءة مأجور يتحدث باسم الدين، ولا الاعتماد على سياسة غربية انتهازية تمتص قوت الشعوب مغمضة عيونها عن استبداد الطغاة وعندما تثور الشعوب تكون الحكومات الغربية أول المهنئين بسقوط الدكتاتور ثم تغلق أرصدته في البنوك الغربية المتخمة بثروات الشعب الفقير.

صحيح أن الطغاة لايأتون إلى شعوبهم من كواكب بعيدة، بل يولدون من رحم الشعوب الضعيفة، لأنه لايصنع الطغاة إلا العبيد، وعندما يتحرر العبيد من خنوعهم وذلهم واستكانتهم مثلما فعل الشعب التونسي، تتغير حياتهم ويذهب الطغاة وزبانيتهم ومرتزقتهم إلى مزابل ونفايات التاريخ !
يقول لي البعض : لا تستعجل الحكم بالإيجاب على ثورة التونسيين، وسوف يتم الالتفاف عليها بطريقة أو أخرى كعادة العرب الذين يئدون كل فرصة للتحرر من قيود الطغيان بكل أشكاله المتنوعة التي تتلبس بعبآت كثيرة.

قلت لهم : مهما حدث... لن يعود الشعب التونسي إلى الوراء ولن يسمح لأحد أن يسرق منه ثورته، ولن يرضى أن يختار غير الحكم الديمقراطي الذي تختاره الشعوب الحرة !!
[email protected]