القاسم المشترك بين الجميع وفي مقدمتهم الولايات المتحدة واسرائيل أنهم جميعا فوجئوا بالقدر ذاته من ثورة تونس. كانت الثورات والإنقلابات التقليدية في العالم العربي تعتمد إعتماداً كلياً على الجيش وتحركه. كان هذا في quot; الزمن الجميلquot;، إذا صح التعبير، حيث السياسة كانت الملجأ الأول والأخير للشعوب. كان الناس من الخمسينات وربما حتى التسيعنات من القرن الماضي يعيشون بالتكافل الإجتماعي، وإذا ضاقت بهم السبل لم يكونوا بحاجة إلى التفكير بثورة الجياع أو الخبز وإن كانت المطالبة بالمساوة دائماً في البال والخاطر وفي الفعاليات السياسية. ولكن هذا الزمن هو زمن الوظائف والبطالة والقروض ومعدلات الفوائد والسيارات الفاخرة والتأمين الصحي، إنه زمن المستهلكين بإمتياز. وهو بلا شك الزمن القاهر للشعوب والحكومات على حد سواء.

لقد اظهرت ثورة تونس أن الدماء التي تراق في العراق ومصر واليمن ودولا عربية أخرى هي دماء بريئة يتم إهدارها عبثاً وأن التفجيرات التي تطال الآمنين والابرياء لن تقلب نظاماً أو تطيح بحكومة. وأن كل ما تفعله هذه الاعمال هي انها تزيد من شقاء الابرياء وتلحق الضرر بسمعة العرب وتدق اسفينا في النسيج الإجتماعي-الوطني. في ثورة تونس لم يقم التونسيون بالإعتداء على اجنبي واحد ولم يحرقوا اي مركز للعبادة ولم يهاجموا الأقليات ولم ينحرفوا عن أخلاقياتهم الرفيعة المستوى. لقد برهن الشعب التونسي فعلاً كم يستحق أن يستجيب له القدر.

عندما حدثت ثورة ايران في اواخر السبيعنات كان آية الله روح الله الخميني هو محور الثورة، ولكن لو وقعت الثورة الإيرانية اليوم لكان الوطنيون والعلمانيون والليبراليون هم قادة ووقود الثورة. العالم تغير كثيراُ وكذلك الأمر بالنسبة للأساليب والافكار والتطلعات.

الشباب اليوم ينظرون إلى الحياة من منظار القرن الواحد والعشرين. لم تعد مفاهيم الأمس تعني لهم الشيىء الكثير، كما أن توقعاتهم تختلف كثيراً عن توقعات آبائهم وأجدادهم. وإذا أخذ أي نظام سياسي هذه الحقائق بعين الإعتبار فمعنى ذلك أنه يخطط ويرسم السياسات التي تتلائم مع توقعات وطموحات مواطنيه.

لم يعد اسلوب القبضة الحيددية يخيف أحد في هذا العالم. القيادة السوفياتية التي كانت قائمة عشية انهيار الاتحاد السوفياتي هي اول قيادة في العالم ادركت هذه الحقيقة وعملت على ضوئها ووفرت على نفسها شعبها الكثير من المآسي والضحايا. واذا كانت البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) الروسية قد دشنت عهداً جديداً لروسيا ودول quot; الستار الحديديquot; السابق فإن أهم شيء فعلته هي أنها جعلت الحاكم في موسكو ينظر إلى الأمور من منظار المواطن وليس من منظار الأيديولوجيات المتشجنة التي ترفض ان تتسامح إلا مع نفسها. المعارضون للبيريسترويكا الروسية يأخذون عليها أنها لم تحقق مستوى الرفاه المطلوب للشعب الروسي، ولكن تبقى الحقيقة أن روسيا اليوم هي افضل بكثير مما كانت عليه قبل اكثر من ثلاثة عقود.

هناك في بعض دولنا إنغلاق وعدم توازن في مجالات تلعب الدور الرئيسي على المدى الطويل في ضمان الأمن والإستقرار للأنظمة والشعوب، كما وليس هناك توازن بين اقتصاديات السوق وحماية المستهلك. إن مثل هذه الحماية لا توفر على الدولة فقط الأموال والارصدة وإنما هي عملية آلية لمكافحة الفساد والإستغلال، وهما من العوامل الرئيسية المؤدية إلى الثورات. في عالمنا العربي هناك أنظمة وحكومات تعرف أهمية هذا التوازن وتعمل بقدر إمكانياتها لتحقيقه وهناك على الجانب الآخر حكومات تطمر رأسها في الرمال إعتقاداً منها ان الزمن كفيل بحل الأمور.

ولكن الزمن لا يحل الأمور بل يفاقمها ويعقدها إذا لم تكن قد بنيت على اساس متين. لا توجد حتى يومنا هذا ثورات في الدول الغربية لأن التوازن موجود بين النقابات العمالية واصحاب المصالح التجارية الكبرى والمتوسطة ولأن النظام لا يتهاون في عملية حماية المستهلك وخلق الوظائف وحماية الحقوق الإنسانية والإجتماعية للمواطن. فالوطن هو للفقير وللغني وللمحروم والمترف وللمعاق والمتمكن. ومن هذا المنطلق تعمل الحكومات، فتأخذ أكثر من الذي لديه أكثر وتعطي أكثر لمن لديه أقل. وبدون ذلك فإن الحكومة تكون اشبه بشلة تجمعها مصلحة واحدة وليس حكومة تهتم بأمور جميع مواطينها.

لا تعني ثورة تونس أن الشعوب لا تدرك أو تقدّر إمكانيات وظروف دولها. الشعوب تقودها الحكومة من الناحية العملية ويقودها المفكرون والسياسيون في المعارضة من الناحية الفكرية. وهذا يعني أن على الحكومات عدم الإستهتار بالمعارضة مهما كانت ضعيفة لأن المعارضة القادرة على إبداء رأيها السديد هي في جميع الاحوال البوصلة التي تمكّن الحكومة من الملاحة في خضم الامواج العاتية، هذا بالإضافة إلى حرية الإعلام والرأي والتعبير واحترام كرامة كل مواطن مهما كان موقعه في السلم الإقتصادي-الإجتماعي والسياسي.
الوقت غير متأخر لكي تراجع بعض الحكومات حساباتها فتؤسس بيريسترويكا عربية تأخذ في الحسبان خصوصيات المجتمعات العربية. فالناس لا ينزلون إلى الشوارع محبة في الهتاف أوالصدام أو الإقتتال، إنهم يفعلون ذلك إما لأنهم جائعون أو بحاجة إلى الوظائف أو لأنهم خائفون على مستقبل اولادهم، أو أيضاً لأنهم ضاقوا ذرعاً بالفساد.

*إعلامي وكاتب عربي مقيم في استراليا