تهدأ تونس شيئا فشيئا، وتعود أسواقها ومدارسها وجامعاتها ووزاراتها إلى حالتها الطبيعية، وتستأنف عملها الاعتيادي، في أسابيع قليلة فقط من ذلك الزلزال الكبير الذي قلب المجتمع التونسي على أعقابه، فهدم الديكتاتورية وطرد الديكتاتور، وباشر بإرساء قواعد جديدة لنظام جديد سيختلف، بكل تأكيد، عن السابق، بكل المقاييس وبكل الحسابات.
ربما يكون محققا لما تأمله الملايين من التوانسة وتستحقه، وقد لا يكون. لكن ليس هناك أدنى شك في أنه سيجيء ديمقراطيا مدنيا علمانيا أكثر عدالة وعقلانية من النظام القديم. فليس في تونس معممون طائفيون سلفيون متزمتون يتصدرون ثورة شعبها الرائدة فيفسدون بريقها وعفويتها ونقاءها. وليس فيها قادة معارضون عائدون من الخارجأ أنانيون، فاسدون، جشعون، متآمرون، يُبيحون احتلال مباني الدولة وأموالها، واقتسامَ وزاراتها ومؤسساتها. وليس فيها زعماء مرضى حاقدون دمويون لا يتورعون عن قتل خصومهم وسحقهم واجتثاثهم بشتى الوسائل والأكاذيب والشعارات المزورة.
في هذه الغمرة من التفاؤل الذي ساد شعوب الدول العربية الأخرى بثورة الشعب التونسي الشقيق تنبأ بعضُ كتابنا العراقيين بأنْ يشهدَ العراق ما شهدته تونس، قبل غيره من الدول العربية، خصوصا وأن معاناة الشعب العراقي أكبر وأشد وأعمق وأكثرُ إيلاما من معاناة الشعب التونسي التي فجرت غضبه العظيم.
لكنْ يغيبُ عن هؤلاء الكتاب أن ما يُبعد هذا الحلم عن العراقيين أن الذين قادوا معارضة زين العابدين بن علي مختلفون عن قادة معارضة صدام حسين بكثير. والفرق بين المعارضتين ليس في نوع السلطة التي أقامتها المعارضة العراقية على أثر سقوط صدام حسين، والنظام الذي تحاول المعارضة التونسية إقامته بعد هرب بن علي، بل في الدور الذي مارسته كل منهما في صناعة المزاج الشعبي والثقافة السياسية والعلاقات الاجتماعية، وتشكيل ملامح المجتمع الجديد وصيغة النظام البديل.
فلم يؤمن أيٌ من معارضي بن علي، لا من الديمقراطيين ولا الشيوعيين ولا الإسلاميين ولا القوميين، بحل الجيش وتسريح قوى الأمن، ورمي الالاف من منتسبيهما إلى المجهول، وإغلاق الوزارات والمؤسسات، وحرقها ونهب ملفاتها وتجهيزاتها، ولا باجتثاث أعضاء الحزب الحاكم، ولا بالعودة عن القوانين والأنظمة المدنية التقدمية التي أنجزها النظام السابق، بل دعوا بقوة وثبات إلى ديمقراطية حقيقية لا شك فيها ولا تلاعب ولا تسلط ولا استغلال، ديمقراطية تقوم على أساس التداول السلمي الحقيقي للسلطة.
وقد تجسدت هذه العقلانية في آخر تصريحات زعيم حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي فور عودته من المنفى، حيث ناشد جميع الإسلاميين من أعضاء حزبه أو من أعضاء الأحزاب الإسلامية الشقيقة الأخرى أن يتحلوْ بالاعتدال والوسطية، وأن يتمسكوا بقوة بالنهج الديمقراطي الذي يساوي بين جميع التوانسة، بمن فيهم أعضاء حزب بن علي، دون أحقاد ولا اجتثاث ولا تهميش ولا أقصاء. قائلاquot; نحن ضد لافتة الحزب الدستوري التي مارس بها الديكتاتور جرائمه بحق التوانسة، أما أعضاء الحزب فهم مواطنون لهم ما لأي مواطن آخر من حقوق، وعليهم ما على أي تونسي آخر من واجبات. وعلى من تضرر من أي ٍ من أعضاء الحزب الحاكم القديم أن يلجأ إلى القضاءquot;.
أما في العراق فإن أمريكا التي أسقطت الديكتاتور لم تسقط الديكتاتورية. فهي كانت تعلم علم اليقين أن حلفاءها العراقيين المعارضين لصدام والمُعينين من قبلها لوراثة نظامه، ليسوا ديمقراطيين، وليسوا مؤهلين لحكم وطن ٍ كالعراق متعددِ المذاهب والأديان والأعراق، لا يمكن حكمُه باحتكار السلطة من طرف واحد، ولا يصلح لحكمه سوى نظام ديمقراطي علماني حقيقي، وليس بكتاتورية الطائفة أو الحزب أو العشيرة الواحدة.
فأول ما فعله قادة المعارضة العراقية العائدون من المنافي الباذخة هو احتلال المباني العامة ومؤسسات الدولة في المدن والقرى، واقتسام الوزارات والموارد دون خوف لولا حياء. حتى أصبح المواطن يترحم على أيام الديكتاتور وفساد أتباعه وأبنائه، وهم كانوا قلة.
ولعل أسوأ سوأتين ارتكبهما الورثة المتحاصصون الجدد هما أولا خطيئة إلغاء الجيش والشرطة وتسريح عشرات الآلاف من الضباط والجنود، وثانيا تلك البدعة الثأرية الطائفية الحاقدة التي اخترعها أحمد الجلبي وباركها وتمسك بها شركاؤه الآخرون، والمتمثلة بقانون الاجتثاث. فهم بهاتين الخطيئتين الكبيرتين أشعلتوا الحريق، ومزقوا الشعب العراقي، ودفعوا بمئات الآلاف من البعثيين، حتى أؤلئك العقائديين من غير المتورطين بجرائم النظام، إلى الانتماء أو إلى احتضان فرق الإرهاب والقتل والمفخخات. وما زال العراقيون، وسيظلون، يدفعون ثمنها البهض الثقيل.
ومن أول يوم سقوط النظام ودخول رفاقنا المعارضين السابقين ونحن نشهد نماذج من سلوكهم في العراق. جميعُهم، دون أن نستثني أحدا، يمارسون السلطة بقلوب قاسية ونفوس حاقدة ظالمة، حتى فيما بين بعضهم، ومع حلفائهم المقربين. وكأن الديكتاتورية كانت مختبئة في داخل كل واحد منهم، تترقب الفرصة السانحة لكي تخرج من قمقمها فتملأ الأرض قهرا واغتصابا وتسلطا واحتكارا، بأضعاف أضعاف ما شهده العراقيون في عهد صدام حسين. حتى بلغ الأمر بهيئة النزاهة أن تعلن على لسان رئيسها أنّ quot; قيمة الفساد المالي في العام 2010 تجاوزت المليار دولار، في حين تمّت محاكمة 873 مسؤولا بُرئ منهم 165 وأدين 709، بينهم 75 بدرجة مدير عام فأعلى، و9 بدرجة وزيرquot;.
أما في تونس فقد سقط الديكتاتور، ويبدو جليا أن الديكتاتورية بكل وجوهها وأشكالها الصريحة والمقنعة، لحقت به، ولقيت معه نفسَ المصير. أما عندنا فقد تأسست ديكتاتوريات متعددة متنوعة متأصلة متجذرة لا يمكن اقتلاعها بسهولة، ليس الآن وليس بعد عشرات السنين.
ورغم كل ذلك النموذج الصارخ للفشل الأمريكي السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي في العراق، فقد تحدث نائب الرئيس ألأمريكي جو بايدن المكلف بالملف العراقي، يوم الجمعة الماضي، أمام الاعضاء الديمقراطيين في الكونغرس في منتدى في كامبريدج في ولاية ماريلاند، فأعرب عن ندمه لغزو العراق في عام 2003، متسائلاquot; هل كان الأمر يستحق 4439 قتيلاً في صفوف الجنود الاميركيين، وهل كان يستحق جرح 32 ألف شخص، من بينهم 16 الفاً سيحتاجون للرعاية الدائمة quot;.
إذن فبايدن لا يأسف سوى على القتلى والجرحى من الجنود والضباط الأمريكيين، أما العراقيون الذين سبحوا، وما زالوا يسبحون، في بحار الدم البريء فلم يندم على ما سببته بلادُه لهم من كوارث ومصائب وخراب.
فليته يضع يده بصراحة على السبب الحقيقي لهذه الكارثة، فيعلن أسفه واعتذاره، ويعترف علنا وعلى رؤوس الأشهاد بأن دولته العظيمة تتحمل وحدها جريرة ما حدث، لأنها باركت أخطاء وأحقاد وفساد وديكتاتورية حلفائها العراقيين الذين ما زال بايدن نفسه يمنحهم عطفه ودعمه وحنانه، رغم كل ما فعلوه بأمريكا وجنودها وضباطها وملياراتها، ناهيك عما أنزلوه من مصائب بالعراق والعراقيين.
ألم أقل إن ثورة تونس لا يمكن أن تحدث في العراق، لسبب بسيط، هو أنها لن تتحقق إلا بشعب حي، متحضر، وطني، ديمقراطي، عادل، مسالم، مستقل، وغيرعميل.
التعليقات