ربما لا ينظر البعض الى ما يحصل اليوم من عمليات الاحتراق التي يقوم بها مناوئين ومعارضين للأنظمة الشمولية، كونها تقع في باب الانتحار الذي عرفنا له معان كثيرة تتكثف في معظمها حول اليأس والإحباط الذاتي المتأتي من إشكالات شخصية سواء كانت مادية او اجتماعية كقضايا الشرف والإفلاس والخيانة، ومنهم احد الباحثين في معهد الأبحاث والدراسات حول العالمين العربي والإسلامي وهو الباحث ميكائيل عياري:
( إن هذه السلسلة من الانتحار حرقا علامة على مأزق سياسي وفراغ فكري، وتكشف أيضا الخلل الذي تعاني منه المجتمعات العربية ).
ويضيف الباحث على الصعيد الرمزي:
( النار تدمر وتبني، تميت وتحيي، على صورة طائر الفينيق الذي يبعث من رماده... وقد تمثل هذه الظاهرة أيضا حالة من التجدد السياسي: أحرق نفسي وأدمر الذين يدمروننا ).
دعونا نعود قليلا الى الوراء مع اولئك الذين احرقوا انفسهم احتجاجا على عملية اعتقال الزعيم الكردي عبدالله اوجلان من قبل مجموعة من اجهزة المخابرات الدولية بالتعاون مع العسكر التركي في تسعينات القرن الماضي، والتي اثارت ضجة كبيرة في الشارع الأوربي عموما، وهي واحدة من اكثر ردود الأفعال مقاومة من مجموعات من الشباب العزل امام جبروت وطغيان الاستبداد والظلم.
انها ليست عملية انتحار نتيجة يأس او عجز او مرض، ولا هي عملية ايذاء للآخرين كما يفعل انتحاريو القاعدة وغيرها في قتل اكبر عدد ممكن من البشر بصرف النظر عمن تستهدفه عملية الانتحار من الأبرياء اطفالا كانوا أم نساء، بل هي واحدة من أكثر وسائل التعبير قساوة على الذات في كراهية النظام والطغاة، حينما يقرر صاحبها حرق جسده ليترجم مشاعره استنكارا لحكم هؤلاء الجبابرة، وصرخة معبقة بألم الموت احتراقا من اجل إيصال الفكرة وإثارة الرأي العام والجمهور لكي يتحرك باتجاه ذات الهدف متوخيا أن لا يؤذي من حوله بأي شكل من الأشكال وكائن من يكون.
لقد أشعل الشاب التونسي ( محمد بو عزيزي ) شرارة الثورة باحراقه لجسده لتنتقل صرخاته المليئة بالرفض والمقاومة والمعبقة بألم الظلم والاستبداد الى كل شارع وحارة ومدينة وقرية، حتى ضاقت تونس الخضراء وجبروت حكامها، أمام رئيسها الذي ولى هاربا لكي لا يسمع مزيدا من تلك الصرخات التي ستحرقه هو الآخر!
وخلال ايام قليلة انتشرت نيران الاتقاد الآدمي في كل من مصر والجزائر والعديد من الدول التي يتعرض اهاليها الى القهر فقرا او عبودية، فقد توفي الشاب الذي احرق نفسه في الاسكندرية قبل عدة ايام، وكان هذا الشاب عاطلا عن العمل وقد صعد الى سطح منزله في حي المنتزة (شرق الاسكندرية) واضرم النيران في نفسه، بينما اضرم مصريان اخران النار في جسديهما خلال الثماني والاربعين ساعة الاخيرة كما تمت السيطرة على شخص ثالث قبل ان يشعل النيران في نفسه.
ولم تقتصر عملية الاحراق على شباب في منتصف العشرينات او الثلاثينات كما جرت العادة لدى كثير من الانتحاريين، فقد أضرم محامي يدعى محمد فاروق في الأربعينات من عمره، النار في نفسه امام مقر مجلس الوزراء في القاهرة ونقل الى المستشفى مصابا بحروق خفيفة، لكنها أي تلك الحروق طالت مئات الآلاف لكي تحرك الشارع المصري الذي يلتهب الآن؟
وفي معظم هذه العمليات يشعر صاحبها بمهانة كبيرة تنتقص من ادميته وكرامته مما يدفعه الى الاحتجاج باقسى انواعه دون المساس بالآخرين، فقد أضرم رجل خمسيني النار في جسده امام مقر مجلس الشعب المصري بعيد انتفاضة تونس بعدة ايام قائلا للمحقق وهو يلفظ انفاسه الأخيرة انهم يهينوننا امام اطفالنا واسرنا اثناء سعينا للحصول على حصة اسرنا من الخبز المدعوم؟، ولم تقتصر عملية اضرام النيران في الاجساد على تونس ومصر، ففي الجزائر حاول خمسة اشخاص انهاء حياتهم باضرام النار في انفسهم خلال الايام الاخيرة، وفي موريتانيا اضرم رجل النار في نفسه بالقرب من رئاسة الجمهورية، في صرخة مدوية مغطاة باللهيب يتعالى فيها الألم والرفض لكل مظاهر الاستبداد والظلم الحكومي للشعب.
وعودة الى موضوع الانتحار بالنار فهو عارض من أعراض القلق الاجتماعي ndash; الاقتصادي والسياسي والفكري ولا توجد له خلفية دينية، فالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي التي تتصدر الاهتمامات وليس الجانب الديني. والأزهر لم يتردد في التذكير بأن الانتحار محرم في الإسلام، كما أن ظاهرة الانتحار حرقا ليست من العادات الشائعة والرائجة في المجتمعات الشرقية عموما. ومن المرجح أن محمد البوعزيزي حين أشعل النار في جسده بمدينته النائية (سيدي بوزيد) لم يتصور أنه سيجسد المصاعب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لشرائح واسعة من الشعب العربي ويتحول إلى هذا الرمز الكبير.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة الكم الهائل والعميق من مشاعر الكراهية والاشمئزاز تجاه الأنظمة المستبدة وجبابرتها المنفردين بالسلطة والمال والنفوذ، ومن نرجسيتهم المتعفنة التي أوصلت هذه المجاميع الى درجة الاتقاد رغم ما تردده كل وسائل الإعلام من تمجيد وتجميل لتلك الأنظمة ورموزها، هذه المشاعر المليئة بالحزن والألم والاعتراض والقهر تمثل مزاج الشعوب الحقيقي حينما يقرر ابناؤها إيقاد أجسادهم حرقا بكل ما في ذلك من الم وعذاب دون التفكير بإيذاء احد نتيجة تلك العملية إلا استثارة الرأي العام وتحريكه باتجاه الانتفاضة ضد الاستبداد والطغيان ورفض ذلك النمط المذل من الحياة، رفضا ومقاومة لتلك الأنظمة الفاسدة ورموزها التي انتهكت حقوق البشر والحضارة في اسلوب حكمها وإدارتها للبلاد وتشبثها بكراسي السلطة والنفوذ واستحواذها على مصادر المال العام بعيدا عن القانون والعدالة الاجتماعية.
التعليقات