كثيرا ما تذهب التعيينات الحكومية، وخاصة في الوظائف الحساسة المهمة، إلى أشقاء الوزراء والمدراء العامين وأبناء أعمامهم وأخوالهم، أو إلى المقربين المؤتَمنين من أتباعهم، بغض النظر عن خبراتهم ومؤهلاتهم. يحدث هذا هذه الأيام، بشكل واسع لم يسبق له مثيل، وكان يحدث في العهود السابقة، سواء بسواء. وقد دأب أغلب حكام العراق، من أول أيام تأسيس الدولة العراقية وإلى اليوم، على العمل بمبدأ (الولاء قبل الكفاءة)، وهذا ما جعل الشعب العراقي يتطلع دائما إلى الثورة من أجل تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، واعتماد الكفاءة والخبرة أساسا للتعيين في وظائف الدولة. لكن هذا الحلم ظل عصيا ولم يتحقق في أي عهد من العهود المتعاقبة. وهو اليوم، في عراقنا الديمقراطي (الجديد)، أكثر وطأة من جميع العهود السابقة.
والحقيقة هي أن العهد الملكي الذي أسقطه الضباط في العام 1958 هو الذي أسس لهذه العقيدة، وظل مخلصا لها إلى يوم سقوطه. ولكن حين نتذكر أن الكفاءات العلمية المتخصصة كانت أقل مما يحتاجه الوطن، في بدايات الدولة العراقية، نعذره إلى حد بعيد. ولكن ماذا تقول حكومات العهود الجمهورية والثورية والديمقراطية وقد أصبح المتعلمون والمتخصصون وأصحاب الكفاءات والخبرات أكثر بكثير من الحاجة، حتى أضطر المهندس والعالم والطبيب للعمل سائقي تكسي في ظل حكومةٍ أحدُ وزرائها لا يفرق بين فخامة وضخامة، حين يتحدث عن أحد رؤساء الجمهمورية؟.
ولم يسارع رئيس الوزراء السيد نوري المالكي إلى إقالة ذلك الوزير، بعد افتضاح جهله، حرصا على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بل كافأ أصحاب الشهادات المزورة وقرر عدم استرجاع الأموال التي أخذوها من خزينة الدولة طيلة عملهم بشهاداتهم المزورة تلك، لأن جميعهم من عظام الرقبة وأعضاء في حزب الرئيس أو في أحزاب شقيقة (حليفة) أخرى.
فهل كان هذا يمكن أن يحدث في العهد الملكي، أو في عهد عبد الكريم قاسم، أو عبد الرحمن عارف، أو حتى صدام حسين؟؟
في الحكاية التالية يتجسد الفرق الشاسع في السلوك بين نوري الجديد ونوري القديم.
تأسست الإذاعة العراقية في 1936. ولأنها الجهاز الدعائي الوحيد فقد منحها الحكام العراقيون المتعاقبون أهمية لا تقل عن أهمية وزاة الدفاع. فهي التي تصنع الرأي العام وتوحده أو تفرقه، ومن يمسك بزمام أمورها يملك البلد كله، دون ريب. حتى أن جميع الانقلابات كانت لا تنجح إلا إذا استطاع قادتها احتلال موقعين، الإذاعة ومبنى وزارة الدفاع.
وتأسيسا على ذلك، كان منصب مدير الإذاعة هاماً جداً، في تقدير السياسيين. لذلك كان يحتكره رؤساء الوزارات، ولا يمنحونه إلا لأقرب المقربين المؤتمنين من أعوانهم. وكان كل مدير إذاعة يعفى من منصبه بمجرد خروج سيده من الوزارة.
في أوائل الأربيعينيات عَين رئيسُ الوزراء نوري باشا السعيد أحد المقربين إليه مديرا للإذاعة، هو .... الراوي، رغم أنه ليس خبيرا في الإعلام، لكن لأنه شاعر وباحث أدبي فهو أنسب من سواه من الموالين للباشا لإدارة الإذاعة، خصوصا وأن الخبراء في المجال الإعلامي، في تلك الأيام، كانوا عملة نادرة.
تعرفتُ على السيد الراوي في أوائل السبعينيات، حين كنت أجمع معلومات ووثائق لكتابي الإذاعي الأول (البث المباشر).
أولُ ما بادر إلى الاعتراف به كان جهلـَه التام بالعمل في إذاعة، الأمر الذي أوقعه في مزالق عديدة وجره إلى تضحيات كبيرة، كان في غنى عنها لو عمل في مجال اختصاصه. وقال: إعطِ الخبز لخَبازه، حتى لو كنتَ لا تأتمنه كثيرا على خبيزك.
وراح يروي لي بعض ما مر به من طرائف في فترة إدارته للإذاعة. قال، إن الباشا حين قرر تعييني مديرا للإذاعة كان يريد مساعدتي ماليا، قبل أي سبب آخر، فأمر بإضافة ثلاثة دنانير إلى راتبي، شهريا، مقابل عملي المسائي في الإذاعة.
يقول، وسرعان ما اكتشف مهندسو الصوت وفنيو تشغيل الأجهزة الفنية المعقدة سذاجة مديرهم وجهلَه بأسرار العمل في الإذاعة، واستعداده لتصديق أي شيء، فاستغلوا ذلك الجهل بشطارة.
يقول، كان من ضرورات ضبط مستوى الذبذبات الصوتية في أجهزة الإرسال الإذاعي أن يستخدم القسم الفني بلبلاً حديديا آليا، يشبه لعبة أطفال، ينطلق منه صوت بلبل لمدة خمس دقائق يومياً قبل افتتاح البث، لقياس أعلى ذبذبة صوتية وأدناها، لتثبيت المجال الصوتي للمرسلة.
لم يكن المدير يعرف هذه التفاصيل، بل كان يعتقد بأن هناك بلبلاً حقيقيا مدرباً على التغريد قبل افتتاح الإذاعة تقاس بتغريده ذبذبات الصوت. وكان المهندسون (الخبثاء) يتناوبون على الذهاب إلى المدير، يوميا، قبل انتهاء فترة العمل المسائي، ليطلبوا منه ربع دينارنفقات طعام البلبل.
وعبثاً كان يحاول إقناعهم بأن الميزانية لا تتضمن بنداً باسم (طعام البلبل). كانوا يأخذون منه ربع الدينار، وكان مبلغاً كبيراً يومها، ليروحوا عن أنفسهم في نادي السكك الحديد المقابل لمبنى الإذاعة الذي اشتهر بعرقه الممتاز. واستمرت الحال هذه إلى أن زار الباشا نوري السعيد الإذاعة ذات يوم وسأله عن أحواله فأبلغه بأن المخصصات الإضافية التي تكرم الباشا بتخصيصها له لمساعدته مالياً تذهب سدى. مؤكداً للباشا أن وزارة المالية نسيت أن تُضمن ميزانية الإذاعة بنداً باسم (مخصصات طعام البلبل)، ولولا حرصه وإخلاصه لوظيفته لتعذر تشغيل الإذاعة. وشرح له حكاية ربع الدينار، فضحك الباشا وقال لــه: إن (الملاعين) خدعوك. ثم أعفاه من المهمة، وأمر بإعادته إلى التعليم.
وحادثة طريفة أخرى:
كان موعد نشرة أخبار الصباح هو الساعة السابعة. وكان المدير نفسه يحضر مع المهندسين قبل الافتتاح كل يوم زيادة في الحيطة والحذر. وذات صباح تأخر المذيع لعدم توفر وسيلة تنقله من منزله إلى الإذاعة. فلم يجد المهندسون بداً من حمل المدير نفسه على قراءة الأخبار بدل المذيع إنقاذاً للموقف. يقول:
quot;لقد أصابني الهلع. كيف أجلس وراء الميكروفون وأقرأ الأخبار، وعلى الهواء مباشرة، ويسمعني الباشا؟ إنها مهمة شاقة بل مخيفة ومرعبة. لقد جف حلقي قبل أن أدخل الأستوديو، وقبل أن أفتح فمي لأقرأ أول جملة من أول خبر، فماذا سيحدث طيلة ربع ساعة من القراءة المتواصلة؟ لكن (أولادي) المهندسين شجعوني، وقالوا لي: أنت شاعر، وكثيراً ما واجهت الجماهير خطيباً، وإن المسألة ليست أكثر من قراءة. ثم توكلت على الله، ولا أدري كيف بدأت وكيف انتهيت ولا ماذا قرأت. وفور انتهاء نشرة الأخبار (ومؤكد أنني قرأتها متقطعة بطريقة الكتاتيب)، أسرعت خارجا أقطع الشارع إلى محل العصير المواجه لمبنى الإذاعة، لأبل ريقي، وبينما كنت أعبر الشارع عاجلني صاحبُ محل العصير سائلا، بسخرية جارحة: أستاذ (يرحم الله والديك) ألا تقول لي أيُ حمار قرأ الأخبار هذا اليوم؟ فقلت له لاهثاً: ذاك هو حضرتُنا يا عزيزيquot;!.
- آخر تحديث :
التعليقات