الثورةُ هِوِيَّتُنا، لا الدينُ، لا الطائفةُ. الدينُ والطائفةُ، اختياران وانتماءان ذاتيّان، محدودان، مخرّبان تخريباً سلبيّاً، مستعبدان للإنسان ولإرادته وحريته المطلقة. لكنّ الثورةَ نبيٌّ تماهى بالذوات الأخرى حتى صاروا جميعاً جسداً واحداً، وعقلاً واحداً، وروحاً واحدة/واحداً. الثورةُ مخرِّبٌ خلاقٌ، يُقَوِّضُ نظاماً فاسداً، شرّيراً، عقيماً، ويخلقُ بدلاً منه نظاماً ولوداً بما يخصّبُ الحياة والمستقبل، أو قُلْ يفتحُ أفقاً آخر لإرادة الإنسان الذي يتحرّكُ في الحياةِ كما لو أنهُ طائرٌ يتحرّكُ في سماءِ الربيعِ.

تنقلُ الثورةُ فعلَ التغيير إلى الجماهير الثائرة، تماماً كما تُحدّدُ زمنَ التغيير ومكانَهُ. فلسفةُ الثورةِ أنها محرِّرةٌ، لا مستعبدةٌ كما الأيديولوجيا: الدينيّة والسياسيّة سواء بسواء. خرجَ الحسين بلا أيديولوجيا، أو قُلْ نظرَ إلى ما هو أبعد وأعمق من الأيديولوجيا، نظرَ إلى حريّة الإرادة؛ إرادة الإنسان الرافض للاستبداد على طول الخطّ. وهكذا خرجَ غاندي، ببضعة كلماتٍ تتراوحُ بين الإرادة والحريّة، فحوّل الهندَ quot; الدرّة اللامعة في التاج البريطانيّquot; إلى وصمة عارٍ في ذلك التاج الكولونياليّ المقيت. هكذا، سرُّ قوةِ الثائرِ تكمنُ في ثورتِهِ، في تلك الطريقِ السريّةِ التي يتصافى فيها مع نفسه، فينطلقُ بروحٍ توّاقةٍ للتحرّرِ.

تونسُ، البلدُ الأخضرُ، الأنيسُ، اخْتُزِلَ في صرخةِ احتجاجٍ عارمةٍ في حنجرةِ محمد بو عزيزي، الذي تَوَحَّدَ مع صرختِهِ كصوفيٍّ حتى توهَّجَ بالثورةِ في أعماقِهِ التي استعادتْ شقاءَ التوانسةِ واستبدادَ دكتاتورٍ خَرِفٍ. كمجوسيٍّ يتطهّرُ بنارهِ، أوقدَ بو عزيزي جسدَهُ، ونثرَهُ رماداً خلاصاً للشعوبِ المقهورةِ. وكسريانِ النارِ في الهشيمِ، سَرَتِ الثوراتُ في العالمِ العربيّ.

من تونسَ التي خَطفَتْ أبصارَ العالَم من حيثُ لا يتوقّعُ، إلى ميدانِ التحريرِ اللامتوقَّعِ هو الآخر. مصرُ، أمُّ الثوراتِ، سليلةُ الحضاراتِ العظيمةِ، رَحِمُ الثوّارِ، أبجديّةُ الرَّفْضِ والتمرّدِ، تخنقُ النظامَ الفاسدَ البليدَ المستبدَّ بظفرَيْ ميدانِ التحريرِ. تكشفُ عورةَ النظامِ أمامَ العالمِ، كما كُشِفَتْ عورةُ عمرو. تُربكُ بلاغةَ الرئيسِ، وتدوسُ على كبريائهِ الفارغِ بجزمةِ الثورةِ البيضاء. وها هو الرئيسُ، يستجدي الأطفالَ والنساءَ والشيوخَ والشبابَ أنْ تسترَ على ماءِ وجهِهِ ببقيّةِ أشهرٍ معدواتٍ يتمضمضُ بهنَّ المضمضةَ الأخيرةَ. العشاءُ الأخيرُ، يمدُّ موائدَهُ ميدانُ التحريرِ، أتفهمُ معنى التحريرِ؟. لا شكَّ في أنكَ ستفهمُ، في ميدانِ التحريرِ ثمّةُ بلاغٌ أخير، ولسوفَ تفهمهُ.