بعد الانتفاضات الشعبية الأخيرة فى تونس ومصر واليمن، شحذ بعض الكتاب أقلامهم لتمجيدها قبل أن تظهر نتائجها. والأدهى من ذلك برز بعض الكتاب العراقيون يتشدقون بأن تلك الأحداث ستمتد الى العراق، ولم يدهشنى أن معظمهم كانوا أعضاء فى حزب البعث المقبور، ومنهم من كان قد اختلف مع صدام وترك العراق ولكنه لم يختلف مع الحزب ويعمل حاليا بكل جد للعودة لحكم العراق، تطبيقا لارشادات (القائد الضرورة) الذى هرب (بتشديد الراء) هو وعائلته والمقربون اليه مليارات الدولارات ليستعينوا بها للعودة. وهم اليوم يطالبون الشعب بالخروج بمظاهرات ضد الحكومة المنتخبة من قبل الشعب نفسه.

ومنهم من تدفعهم طائفيتهم الغبية والأحقاد الشخصية والغيرة والحسد. انهم لا يطالبون برحيل المالكي حاليا، بل يطالبون بالاصلاحات، واذا ما اشتدت المظاهرات وعمت البلد سيضربون ضربتهم القاضية ويعلنوها جمهورية بعثية ثالثة.

إن الشعب الذي اختار أعضاء البرلمان والحكومة عن طريق صناديق الاقتراع يمكنه أن يجردهم من مناصبهم إذا ما أخلفوا وعودهم له. ولكن أنظروا من هم الذين انتخبهم الشعب لخدمته: انتخب قادة حزبيين انشغلوا بالنزاع فيما بينهم على الرئاسة 9 شهور، وماذا نتج عن ذلك النزاع فى النهاية؟ حكومة عجيبة غريبة تجمع كل المتناقضات، وبرلمان لا وجود للمعارضة المنظمة فيه. ترى هل توجد فى العالم دولة ديموقراطية واحدة تخلو من معارضة فى برلمانها؟

مجلس الوزراء يضم أشكالا وألوانا عجيبة و متناقضة بحجة اشراك جميع الأحزاب والكتل فيه، وهذه -كما أعتقد- سابقة لم تحصل فى غير العراق، ونتجت عن تشبث الجميع بكراسي السلطة وسوء تقديرهم لأهمية المعارضة. فمثلا يأنف رئيس القائمة العراقية الجلوس بين المعارضة ويأبى الا أن يكون رئيسا للوزراء وبعد أن أخفق فى الحصول على الأصوات الكافية هدد وتوعد مرات عديدة بإثارة القلاقل فى البلد (وإن لم يقل ذلك صراحة). وأخيرا اتفق المتخاصمون على ترضيته بتأسيس ما يسمى بمجلس السياسات بزعامته، ولكنه اشترط أن يستلم راتبا لا يقل عن راتب رئيس الوزراء. وما زال الخصام مستمرا بشأن هذا المجلس وحول طريقة تنصيب رئيسه أو أمينه العام، وهذا المجلس مهزلة أخرى أفرزتها الانتخابات الأخيرة.

ان العراق أضعف من أن يتحمل مظاهرات فوضوية غير منظمة، والاحتمال وارد جدا فى أن يعود البعثيون مستغلين الفوضى للحكم فهم أكثر الفئات تنظيما وأشدهم غدرا، ولن يستطيع الشعب المغلوب على أمره من عمل شيء. العراق اليوم ضعيف و مقسم فعليا الى ثلاثة أقسام رئيسة: الأكراد فى الشمال والسنة فى الوسط والشيعة فى الجنوب، وقد تعمقت الكراهية فيما بينهم بالدرجة الأولى بسبب سوء تصرفات قادتهم و رؤسائهم ورجال الدين المزيفين، ولربما يأتى اليوم الذى يصبح فيه التقسيم علاجا أخيرا مرا مريعا. رجاء لا تلقوا مسئولية ذلك على الاستعمار واسرائيل وأمريكا وبريطانيا، فقد أصبحت هذه اسطوانة قديمة ومشروخة أكل عليها الدهر وشرب، فأين كان الاستعمار وأعوانه بعد وفاة الرسول حيث اختلف المسلمون على من يخلفه وانقسموا الى طوائف متعددة متناحرة يقتل بعضهم بعضا وصرنا لقمة سائغة للمغول ومن بعدهم للفرس والعثمانيين ومن بعدهم للاوربيين والأمريكان؟

يجب على العراقيين إن أرادوا التظاهر أن يتظاهروا ضد أنفسهم. فإنهم هم وحدهم الذين انتخبوا أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس النواب، هذا المجلس الذى يغط بالنوم ونادرا ما يكتمل نصابه، أو يذهب الى الحج أو السفر للترويح عن النفس ويهمل النظر فى القوانين واللوائح التى تقدم اليه، ويجتمع بسرعة البرق وبحضور أغلبية كبيرة فقط إذا ما طرحت مقترحات لزيادة رواتبهم ومخصصاتهم، أو عندما يطالبون بالحصول على أراض على شواطىء دجلة و سيارات مصفحة وعشرات المسلحين لحماية أنفسهم إضافة الى مخصصات كثيرة أخرى لا يصدقها العقل، ولا يلتفتون الى الشرطي والجندي الذى يعرض حياته للخطر فى كل ساعة وكل يوم، وراتبه يقل عن واحد بالمئة من راتب النائب فى البرلمان.

أعود الى المظاهرات وأسأل: لماذا تتظاهرون وأنتم الذين انتخبتم الصدريين الأربعين أعضاء فى المجلس العتيد؟ والكل يعرف من هو قائدهم وما هى مؤهلاته. ألستم أنتم الذين انتخبتم البعثيين القدامى ومنهم من ساهم بتخريب بلدكم ماضيا وحاضرا؟ ألستم أنتم الذين سمحتم لرجال الدين أن يخلطوا معتقداتهم الدينية والطائفية بالسياسة؟ البعض من غلاة السنة وجهلائهم يسهلون دخول الانتحاريين والمجرمين من الحدود الغربية والجنوبية، والبعض من غلاة الشيعة وجهلائهم يسهلون دخول عملاء ايران من الحدود الشرقية، والأكراد ساكتون الى حدما وسينفصلون اذا ما اتيحت لهم الفرصة. الأتراك فى الشمال وان كانوا يحلمون باسترجاع مستعمراتهم العربية القديمة، الا أنهم وبسبب خبرتهم الطويلة يفضلون مسالمة الجميع ليكون فى استطاعتهم تصدير منتوجاتهم الصناعية والزراعية لنا فينتعش اقتصادهم بدلا من الدخول فى نزاعات لا تعود بالخير على أحد.

إذا كان ولا بد لكم أن تتظاهروا فتظاهروا مطالبين بحل المجلس النيابي ومحاسبة أعضائه عن الأموال التى كسبوها اثناء هذه الدورة والدورة التى سبقتها. وكذلك إلغاء الدستور الحالي وكتابة دستور جديد يتلافى الأخطاء والثغرات فى الدستور القديم وكتابة نص واضح بفصل الدين عن الدولة. أما تنازل رئيس الوزراء عن نصف راتبه وربما يتبعه البعض نفاقا، فهذه كما نقول فى العراق: الشق كبير والرقعة صغيرة.

إن الطائفية تنخر بالبلد بشدة ولا داعى لانكار ذلك، فقد تربى الشعب العراقي عليها وعاشها ممزقا لعدة قرون خلت، ولا يمكن أن نتخلص منها إلا بتثقيف الشعب وتوعيته ليدرك خطر هذا التمزق والتشظي الجسيم على الجميع وبدون تمييز. الاصلاح يتطلب وقتا طويلا وصبرا مؤلما وتضحيات جسام. ولن نستطيع أن نجد من يملك عصا سحرية لكي يبنى ما تخرب فى العراق فى سنة أو بضع سنين، فإن ذلك يتطلب عقدين من الزمن على الأقل وبشرط أن تتوقف أعمال التخريب من قبل البعثيين والقاعدة والعملاء من كل الأنواع.
المطلوب حاليا من رئيس الجمهورية التصديق فورا على أحكام الاعدام الصادرة وإلا يجب عليه التنحى، فنسبة المجرمين والجرائم فى ازدياد، والعراق ليس سويسرا أو السويد مثلا لنقلدهما بتعطيل مثل هذه الأحكام، وحتى فى أمريكا فإن أحكام الاعدام ما زالت تطبق فى بعض ولاياتها. إن الاحتفاظ بالقتلة والمخربين فى زنزاناتهم يكلف الخزينة مبالغ طائلة ما بين حراستهم واطعامهم وكسوتهم فى الوقت الذى يتضور فيه البريئين من العراقيين جوعا. وتعطيل الاعدام يؤدى أيضا الى تشجيع المجرمين على الاستمرار فى جرائمهم طمعا فى أن يتغير الوضع ويخرجوا من السجون أو يهربوا منها بعد رشوة الحراس أو مساعدة من بعض المسئولين.

يجب ايقاف تدخل الجيران فى شئون العراق، وتهديدهم بقطع علاقاتنا التجارية معهم إن هم أصروا على التدخل، ونجعل من قوة اقتصادنا خير رادع لهم. ويجب الكف عن اللوم فيما بيننا حول ما مضى ونبدأ صفحة جديدة ونتسامح مع أبناء بلدنا التائبين الذين لم يلطخوا أيديهم بدمائنا، ونترك تشخيص المجرمين منهم للقانون وحده.

نحتاج جميعا الى الصبر والعمل الشاق الدؤوب، وليشعر كل فرد منا بمسئوليته أمام شعبه ووطنه ويقوم بواجباته بكل تفانى وإخلاص، فقد تخلفنا كثيرا والطريق أمامنا طويلا كثير المطبات، ولكننا سنتجاوز كل العقبات بإرادة صلبة وعزم ثابت لا يتزعزع.