إن أسباب ومسببات التغيير الذي بدأنا نشهده في العالم العربي، مع ولوجه العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لم تكن وليدة اللحظة التي انفجرت فيها، مع كون اللحظة هي الشرارة التي أشعلت فتيلها. وهذه حقيقة التغييرات والتغيرات الجذرية التي تحدث في التاريخ، وتفصل ما قبلها عن ما بعدها. وعليه تسمى الأحداث الفاصلة بالتاريخية، لكونها تفصل حقبة تاريخية عن ما قبلها. فالأحداث التاريخية الفاصلة هي نتاج تراكم لتغيرات تفرز تداعيات، تحدث بدورها تغيرات جديدة تفرز بدورها كذلك تداعيات جديدة وهكذا، حتى تلد واقع تاريخي جديد يختلف عما قبله، لا يشبهه ويحدث قطيعة معه. ولذلك يذكر الحكماء بأن quot; الأيام حبلى بكل ما هو جديد.quot; إذاً فالمسألة مسألة تشكل ومخاض وإعادة تشكل ومخاض أخر يليه، وهكذا تتشكل الصيرورة. ومخاضات الصيرورة إما تتخلق بيسر وإما بعسرً. ولا أحد من المخلوقات، يحسب حبل الأيام بوعي، ويستعد لمخاضاتها، غير الإنسان، حيث هو موضوع حركتها وهو واضع حراكها.

ومع كون الإنسان هو موضوع وواضع حركة التاريخ، إلا إنه ليس بالضرورة، دوماً يعي ما يحدثه أو ما يحدث حوله من تغيرات، مع كونه مخلوق واع، فهو يعي ما يعي، ولا يعي كثير مما يجب بأن يعي. ويحدد تقدم الإنسان وتحضره، نسبة وعيه بما يحدث حوله، والعكس صحيح. فقبلية ( بدائية )، الإنسان تجعله أقل من غيره في القدرة على التغير ومن ثم التغيير؛ وعليه شبه تنعدم لديه القدرة على وعي ما يحدث حوله من تغيرات، ويصبح أكثر من غيره مقاومة لها، خاصة في بداية دخوله لعوالم المدنية والتمدن. فمفهوم التاريخية لا يجد مساحة تذكر في حيز ذهنيته، والزمن بالنسبة له متوقف كطبيعة أشيائه وأدواته المتجمدة من حوله. حيث منذ وعى نفسه، منذ قرون غابرة وخيمته هي خيمته، لم تتغير، وكذلك ناقته هي ناقته لم تتبدل، ولباسه هو لباسه لم يتغير، وكذلك طعامه هو طعامه لم يتنوع؛ وذلك لكون مصدر كسبه هو مصدر كسبه لم يتطور.

ولذلك انسحبت تلقائياً ستاتيكية ( ثبات )، أشياء الإنسان البدائي المادية؛ على قدرة ذهنيته في فهم ووعي التغيرات التي تحدث من حوله؛ حيث حرمته طبيعة أشيائه وتفكيره من أن يكون متفاعلاً ناهيك عن أن يكون فاعلاً في محيطه. وذلك لعلة ثبات ما حوله، التي انعسكت على قيمه ومفاهيمه التي يحملها وأحالتها كذلك، لثوابت رواسي لا تتزحزح، متمنعة عن التطوير ناهيك عن التغيير أو التبديل. فقيمه التي تحركه وتعكس وعيه تتكلس كثوابت راسخة، كثبات وتكلس عامود وأطناب خيمته المثبتة للأرض بصلابة، خشية أن تتزعزع وتسقط عليه ومن يعول، أو ترتخي فتتخلخل اجنابها فتسمح لرمال الصحاري الحارقة التي تحثوها رياحها العاتية من التسلل لداخلها.

وهكذا انسحبت الطبيعة المتكلسة لأدوات وحاجيات الإنسان البدائي على قيمه، لتتكلس هي بدورها، وتصبح ثوابت غير قابلة للزحزحة أو الحراك، وكما أن خلخلة عامود خيمته ينذر بسقوط وخراب بيته؛ فأي محاولة لتحريك قيمة من قيمه التي تحولت بفعل التكلسات إلى مقدسات، تصبح نذير شؤم يتحتم مقاومته قبل وقوع الكارثة، ( هذا ما وجدنا عليه أبائنا ). وعليه فليس بالمستغرب بأن يعلل الإنسان البدائي، بعقليته البسيطة، أي خلل كارثي طبيعي أو تغير كوني ولو طفيف يحدث من حوله، بسبب خلل كارثي مس قيمه أو قيمة منها قبلها. فرهنه حياته الحاضرة لقيمه السلفية الماضوية، التي جزم بصلاحيتها لكل زمان ومكان؛ دعم تجمد الزمن وحركة التاريخ في ذهنيته، وأصبح محرك ما سلف من حياة أبائه وأجداده، هو محرك حاضره، ويجب بأن يكون محرك حياة أبنائه وأحفاده في مستقبلهم كذلك.

ولذلك فليس بالمستغرب، بأن يتباهى الإنسان البدائي بصلاح قيمه الماضوية، التي لا دخل لها في صنع حاضره لا من قريب أو من بعيد، ويحكم بفساد غيرها من قيم صنعت الحاضر وتعمل جاهدة على صنع المستقبل. وبنفس الأسلوب، يتباهى ويبارز غيره بجمال ناقته، مع كون ناقته وسيلة مواصلات ماضوية، لا مكان لها في طرق وخطوط ومواصلات الحاضر، التي تتحفز لنقل البشر لغزو الفضاءات الخارجية واستكشافها وسبر أغوارها. وقد أعتاد هذا الإنسان البسيط على توريث قيمه لأبنائه، كما يورثهم جماله، وكانت الحياة بالنسبة له تمشي على وتيرة ساكنة لا حراك فيها، إلا لتكريس وتكليس قيمه، اتساقاً مع تكلس أدواته المادية، التي يسرت له حياته، وآليات تعاطيه معها.
ولم يكن الإنسان البدائي آنذاك، يعي بترابط التكلس بين أدواته وقيمه، فكلاها متوائمة مع معطيات حياة السكون التي كان يعيشها، حيث هو نتاج بيئته والابن البار لها، كما أن أسلوب وطرق إدارة حياته لم يسبب له مشاكل تذكر، تدعوه للتفكير بها، ناهيك عن مراجعة صلاحيتها أو نقدها. فأصبح مفهوم النقد والمراجعة لديه، من مفردات الصعلكة المحرمة والمخرجة عن جماعته القبلية ومن ثم، من الملة.

وعندما تغيرت حياة الإنسان البدائي، بفضل معطيات التقدم والمدنية العالمية، والتي ليس له فيها لا ناقة ولا جمل؛ اجتاحته بغير رغبة منه أو طلب، وذلك لموقع صحرائه الجغرافي المتوسط ولطبيعة جيولوجيتها الغنية بخامات تحتاج لها ماكينة التقدم والمدنية العالمية، وتعامل معها كغنيمة هو أحق بها من غيره أو أخيه أو الذئب. وهكذا تحولت جغرافيات القبائل إلى دول يفترض بأنها حديثه، ومضارب خيامها إلى مدن مليونية تتوسطها ناطحات سحاب، بمطاراتها الدولية التي تربط شرق العالم بغربه. وهكذا تبدلت أدواته الجامدة إلى أدوات تقنية حيوية ودوماً متغيره؛ فانتقلت حياته المادية بشكل عام من الحالة الستاتيكية إلا الحالة الدينامكية، مع احتفاظه بستاتيكية قيمه الماضوية المتكلسة، وعض عليها بالنواجذ. وأصبح يدير حياته بتناقض عجيب، يصدق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم،quot;... حفاة عراة رعاة الشاة ( ستاتيكية القيم )، يتطاولون في البنيان ( ديناميكية المادة ).quot;

وبما أن من تولى حكم الكيانات السياسية العربية الحديثة، بعد تفكك وسقوط الإمبراطورية العثمانية، هي تحالفات من قوى التقليدية المحلية، ممثلة بالمشيخية القبلية والإقطاعية المحلية، والكمبرادورية البرجوازية الصاعدة، تدعمها المؤسسات الدينية التقليدية والعشائرية المسيطرة على الأرياف، وتحرسها ثكنات من العسكرتارية، المنظمة والمدربة والمدعومة والمسلحة من قبل قوى الإمبريالية الاستعمارية الغربية، التي ورثت التركة العثمانية. وتم فرض نظام الدولة الحديثة على المنطقة، التي تم إدارتها بعقليات ونظم ستاتيكية تقليدية، لتكون حارس لمصالح التقليدية وحاشياتها النفعية، وربطها مباشرة مع المصالح السياسية والتجارية الإمبريالية العالمية. وفي منتصف القرن العشرين أخذت الكيانات السياسية العربية تستقل عن سيطرة القوى الأوربية الاستعمارية، نتيجة دخول الأخيرة، حربين عالميتين أنهكت قواها واضطرتها للتقوقع داخل قارتها العجوز.

وفي بداية الخمسينيات ميلادية، أصطف العالم الغربي، إلى حلفين متصارعين في نزاعات مستمرة سميت بـ ( الحرب الباردة )، عادت على أثرها القوى الأوربية بقيادة الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي، للمنطقة العربية لتدعم القوى التقليدية المسيطرة على إدارة دفة الدول العربية وبطريقة شمولية تقليدية للمرة الثانية. حيث أخذ كل حلف أوربي يساند ويحمي دولة أو دول منها، لتسانده في صراعه، وتبارك تقليديتها، خشية من أي حراك قد يحدث فيها، يوصل فئات وطنية شابة أو تقدمية، لسدة حكمها، قد تقلب تحالف هذه الدولة أو تلك من مساندة حلفها للحلف المعادي. حتى ترعرعت القوى التقليدية، التي تم مباركة تقليديتها ودعم عجزها دولياً، حتى تولدت طبقات طفيلية من أثرياء الفساد الذين أثروا بفعل قرابتهم العائلية من القيادات السياسية التقليدية، وتوليهم مناصب رسمية، ليسوا أهل لها، في هذه الأنظمة، ليخلقوا كمبرادورية طفيلية جديدة، تتحكم بواردات وصادرات والأنظمة المصرفية لهذه الدول. وأخذت هذه الفئة الطفيلية الفاسدة الجديدة، بخلق بوليسها القمعي الخاص بها، لتدعم بدورها القوى التقليدية السابقة عليها، وتتولى أكثر من غيرها، عملية كتم أنفاس الشعوب العربية، وسد أي أفق للتطور والنمو الطبيعي لهم.

وفي بداية العقد الأخير من القرن العشرين، سقط سور برلين، وسقط معه كل دعم غير مشروط، للقوى السياسية التقليدية الحاكمة للدول العربية. وفي العقدين الأخير من القرن العشرين والأول من الواحد والعشرين، أخذت تترنح خطط التنمية في الدول العربية، وظهرت عوراتها جلية أمام الشعوب العربية، التي فضحت تقليديتها وجعلته في صدام، وجه لوجه مع حداثة الجيل العربي الديناميكي الجديد، بعد رفع القوى الغربية السياسية يدها عنها، وتسلل قوى مؤسسات مجتمعها المدني الإنساني والتقدمي، مع تقنيات اتصالاتها الحديثة، لتصل لنسيج المجتمعات العربية الواسع، وتجد قبول لدى قواها الشابة الصاعدة.

وهنا بدأ الصدام بين المخلوق الديناميكي الجديد والمخلوق الستاتيكي القديم ( القوى التقليدية الحاكمة )، يظهر جلياً على السطح في أنحاء العالم العربي، بعد ولادة أحفاد أحفاد المخلوق الستاتيكي الأول، حيث الأحفاد هم مخلوقات ديناميكية، ينتمون للعصر الديناميكي الحديث ولمعطياته المادية والقيمية ( مؤسسات المجتمع المدني )، بكل ديناميكية تفاصيلها وأبعادها. حيث من ناحية، لا ناقة لهم ولا جمل لا بحياة المخلوق الستاتيكي، ولا بقيم حقبته الستاتيكية الغابرة بالنسبة لهم، ومن ناحية أخرى، انخراطهم الواعي، في تصنيع وتطوير أدوات حياتهم المادية، التي أستورد ابائهم وأجدادهم أجيالها الأولى، التي تعاملوا مع ميكانيكيتها، بسلبية كتابوهات غامضة. حيث قام الجيل الجديد بتفعيل تقنياتها والتفاعل الحياتي اليومي معها؛ والتي حتمت عليهم، تبني ديناميكية قيم التصنيع وتقنية الاتصالات الحديثة؛ وعليه تبنوا تطوير وتفعيل ديناميكاتها القيمية. وعلى هذا الأساس بدأ يأخذ جيل الشباب العربي الديناميكي على عاتقه توطين وتفعيل ديناميكية قيمه الجديدة وتحطيم القيم المتجمدة، والمفروضة عليه والخانقة له، وفرض قيمه الديناميكية كواقع حياتي معاش، لتتواءم ديناميكية أدوات وآليات حياته المعيشية مع دينامكية قيمها وأسلوب إدارتها، وهذا حق إلهي وتاريخي لهم. فأعمار الأرض هي سنة الله في خلقه، وشرط الأعمار يكمن في ديناميكية الفعل، والستاتيكية هي شرط الموت الأول والأخير. فالتاريخ ديناميكي بالطبيعة، وبطبيعته كذلك يتحالف مع كل ديناميكي يماثله بالطبع، أو ينساق معه بالتطبع.

والسؤال الذي بدأ يطرح نفسه وبإلحاح عنيد، على واقع عالمنا العربي السياسي والاجتماعي والثقافي اليوم هو: هل سيفسح جيل الستاتيكية القيمية القديمة، والقابض بكل تكلس وحدية على دفة تسيير شئونه المجال، وبعد وضوح فشل معطياته التنموية المادية والبشرية، المجال لجيله الديناميكي الشاب الصاعد والمستعد والمتأهب للوثوب وبكل ثقة بمقدراته وقدراته، لقيادة نفسه بنفسه، وحسب أسلوب قيمه الديناميكية، لتقديم وممارسة واقعه الديناميكي المتجدد، عن طريق تدافع الأجيال السلمي؟ أم سيزداد تكلساً على تكلس، ويفتح المجال واسعاً أمام كارثة صدام الأجيال؟ وبما أن المجتمع العربي هو مجتمع شاب وبامتياز، حيث يمثل الشباب فيه نسبة حوالي 70% من تركيبته السكانية؛ فأي تصادم سيحدث سيكون النصر فيه لا محالة حليف لجيل الشباب.

فحقناً لدماء الشباب التي ستسفك، وكرامات الشيب التي ستهدر، وقد يمرغ فيها التراب؛ فخيار التدافع السلمي هو خير خيار للجميع، لحفظ الدماء الجديدة وصيانة الكرامات القديمة؛ فلا مجال بعد اليوم، والمتمثل بقيم عصر السرعة البرقية والشفافية، فيس بوك، توتر واليوتيوب، التي تمثلها وتدفع بها، مؤسسات المجتمع المدني، التي نأت بنفسها عن تكلس وتحكم الماكينة البيروقراطية الحكومية، وربطت نفسها، بديناميكية حراك الشعوب، بأن يحكم الإنسان أكثر من ثمان سنوات، ناهيك عن أن يحكم، جيله وجيل أبنائه وجيل أحفاده كذلك.

فالتاريخ يتقدم نحو المزيد من وعي الذات، الذي يجعل الإنسان يتقدم باتجاه المزيد من العقلانية والأخلاق والحرية، فهذا طموح التاريخ النهائي والأخير، حيث يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر. وذلك بتحقيق التقدم المادي والمعنوي لهم. فالتاريخ بحركته التي تبدو عفوية ينتج قوانينه الخاصة به، وهو بقصد ووعي تام ومطلق يحقق فهماً نهائياً، نحو السعادة الإنسانية غير مكترث بالزمن الماضي وشخوصه التي تحاول دائماً أن تسقط قوانينها النهائية على حركته ونشاطه المعيشي.