في العراق انتهى عصر الرئيس القائد والضرورة رغم انه هناك من يريد دكترة دولة الرئيس او فخامته او سعادته وتكثيف بعض السلطات بيده او تحت إمرته، فلم تعد هناك آليات وارضيات لقبول حكم مركز بيد شخص واحد او حزب اوحد او نظام بذاته، وهذا ما يفرح قليلا ويبعد تماما فكرة انجاز أي انقلاب يحاول السيطرة على كل البلاد، أو مركزة الحكومة والسلطات بيد شخص ما او مجموعة حزبية او قومية تخرج علينا بما كان يسمى دوما في فلكلورنا وموروثنا السياسي مجلس قيادة الثورة!؟

الا ان ذلك لم يمنع من محاولات انشاء عناقيد طفيلية متعددة لا على المستوى السياسي فقط وانما ظهورها على شكل دكتاتوريات وكارتلات مالية واقتصادية نشأت طفيليا بشكل عمودي وانشطرت افقيا في ظل ظروف انهيار الدولة ومرحلة التأسيس من خلال الأحداث التي وقعت بعد الاحتلال مباشرة وبروز طبقات تمكنت من استغلال الصراعات والفوضى للاندساس الى مفاصل الدولة وبناء اهراماتها المالية في الفساد والإفساد، حتى نجحت بالاستحواذ على رؤوس اموال ضخمة مكنتها من التأثير الجدي في حركة الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مما ادى الى توصيف البلاد بانها واحدة من البلدان الاكثر فسادا وفشلا!؟

لقد كان في العراق عوجة واحدة وهي قرية الدكتاتور السابق، تحولت في عصره الى أم القرى(!) وما تعنيه من امتيازات في كل شيئ، فيها وعلى اطرافها عشيرة او اسرة واحدة متنفذة وبيد افرادها زمام السلطة والمال، ودكتاتور واحد بيده كل مفاتيح الدولة والشعب، فاصبح لدينا اليوم عشرات العوجات التي ينتمي اليها زعماء القبائل السياسية وكتلها، اضافة الى عشرات العشائر وشيوخها وافخاذها التي تحولت الى جيوش للصحوة والاسناد او ميليشيات دينية او مذهبية، ولم يعد العراق يكفيه دكتاتور واحد فاصبح لدينا العشرات منه ابتداءً من أي مدير ناحية او مدير عام وحتى اصحاب المعالي والسعادة والفخامة والاساتذة الاجلاء مسؤولي الاحزاب والجمعيات وخاصة مناضلي منظمات المجتمع المدني الذين يتوالدون ويتكاثرون كالقطط الشباطية مع اسعار البورصة والبترول!؟

تذكرت تساؤلات احد الفلاحين وهو يرى الناس طوابير امام مراكز الانتخاب في كانون ثاني 2005م وهو يقول ماذا تفعل الناس هنا، فقلت له يا شيخ: الناس ينتخبون مجلسا للنواب وحكومة جديدة، فضحك قائلا ( يعني هل راح ايصير خوذ وماخوذ يعني فرهود مرتللخ )، وهو يقصد ما حصل ابان سقوط النظام في نيسان 2003م من حواسم ونهب وسلب، رافق عملية الاحتلال وانهيار النظام والدولة معا؟ ولم يكن يعلم انهم سيطورون المفاسد والحواسم بما يتوافق مع الحقبة الجديدة!؟

صحيح ان الفرهود بشكله المعروف لم يحصل بعد الحواسم، الا ان الفرهوديين والحواسميين استطاعوا تطوير تلك المفاهيم والياتها بحيث نجحوا في تحقيق نتائج باهرة فاقت ما انتجوه في فرهودات الأربعينات ببغداد او في الستينات في كركوك او نهاية الثمانينات في كردستان واخيرا في الحواسم، فهم يفرهدون البلاد باكملها تحت يافطات مختلفة اقلها بل اكثرها رقة وحنان مرتبات ومخصصات ونثريات الرئيس ( بكل انواعه ) ونوابه، والوزير وعضو مجلس النواب ومجلس المحافظات ومن هم بدرجتهم ليوم الدين ( التقاعد ) وكل ذلك بقانون ولكن خارج قانون الخدمة والتدرج الوظيفي وسنوات الخدمة ونوعها كما هو معمول به في كل دول العالم، وكما انه لا يشبه أي معدل او متوسط او سقف اعلى لمعاشات أي رئيس او مسؤول في العالم اذا تتراوح مرتبات او مخصصات أي من الرئاسات الثلاث ما بين ( 360000 الى 700000 دولار سنويا ) فقط، حسبما ذكرته النائبة شذى الموسوي، وتناست انها ايضا تتقاضى مع 324 نائبا آخر ما يقرب من 25 الف دولار شهريا أي بما مجموعه 300 الف دولار سنويا لكل نائب وتصور كم هي مرتبات ومخصصات مجموع اعضاء مجلس النواب؟

يقول احد المراقبين في جوابه عن ضخامة تلك المعاشات والمخصصات انهم يقلدون رئيس النظام السابق حينما كان يعطي راتبا ضخما للقاضي لكي لا يرتشي او يتم اختراقه فتبين بعد سنوات ان اعلى نسبة في الارتشاء كانت عند اصحاب الرواتب والمخصصات الكبيرة سواء كانوا قضاة او محافظين او جنرالات!؟

يبدو واضحا اليوم ان ما يحدث في كثير من البلدان من انتفاضات مرده ليس مشكلة الديمقراطية وتداول السلطة فقط، بل اكثر ما يجعل الناس تحرق اجسادها هو العوز والفاقة والفوارق الهائلة في مستويات المعيشة بين الاهالي وانعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية وتدهور الخدمات، ولذلك يعتقد الكثير من الناس ان البلاد تحتاج فعلا الى زلزال شعبي توقده هذه التناقضات والاحباطات التي انتابت الاهالي وهم يزدادون فقرا وبؤسا بينما تتعملق تلك الطفيليات فتصبح حيتانا وديناصورات، زلزال شعبي يسجل هزة ربما تتجاوز درجات مقياس ريختر التي اعتدنا عليها في قياس ارتجاج الارض، زلزال تصاحبه عواصف تجرف اهرامات الفساد والفاسدين الذين سرقوا احلامنا وامنياتنا طيلة نصف قرن من العبودية والاستبداد، زلزال يطبق الارض على اولئك الذين كانوا اكثر الناس فائدة من تلك العقود الغابرة واكثرهم عمالة وارتزاقا لكل الانظمة الساقطة منذ تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا، فاصبحوا اليوم قطعانا من الحيتان والديناصورات التي تسحق امامها الاخضر واليابس منذ سبع سنوات عجاف في بلاد لا تكاد تودع غازٍ او مليك او دكتاتور حتى تستقبل اظلم منه واعتى؟

[email protected]