لا شك في أن الثورة المصرية الجبارة قد شغلت الدنيا هذه الأيام، في بدء إزالتها للنظام المصري برأسه الذي كاد يُسلّم بلده إلى المجهول وهو يتشبث بكرسيه بعناد شرس وراءه ما وراءه إزاء عناد آخر شريف هو عناد الشعب المصري الذي قرر وأراد وهو يصمد الآن لتحقيق كل قراراته وتنفيذ إرادته الجبارة. وفي ظل هذا العناد الشريف والصمود الجبار يكون طبيعياً ان يكون هتاف (مش حنرحل) هو رد الشباب المحتشد في ساحة التحرير على دعوة قائد عسكري لهم قبل أيام لترك الميدان وهو يقول لهم quot;حافظوا على ما تبقى من مصر، فهو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي لم يتمزقquot;، ويعني بالطبع في عهد حسني مبارك.

وهنا نقول إن القائد كان محقاً في هذا، ففعلاً لم تتمزق مصر في زمن حسني مبارك كما تمزقت بلدان غيرها، ولكن فات القائد العسكري أن يتذكر دور مبارك في تمزيق تلك البلدان الأخرى مثل العراق والسودان ولبنان وفلسطين، وغيرها، وفاته ما فعله مبارك ببعض الشعوب التي وقعت ضحايا تحالفاته مع أمريكا والغرب وإسرائيل. فكما سهّل حربَي أمريكا على العراق وتسبب في تداعيات تلك الحربين على الشعب العراقي، معروف ما فعله حصاره لغزة وتشجيعه لحرب إسرائيل عليها، ولا نظنه ينكر تأييده لحرب إسرائيل على لبنان بحجج هي ليست إلا تبريرات لأمريكا وإسرائيل في أفعالهما الشنيعة.

قد يقول البعض إنه في ذلك كله كان يستهدف نُظماً وطغاةً، ولكن واقع الأمر يثبت غير ذلك. فخطته الكبيرة لبناء جدار حديدي بين مصر وغزة كانت فضيحة القرن الواحد والعشرين، وتأييده لحرب إسرائيل على لبنان غير مخفية على أحد. أما معاناة الشعب العراقي فربما هي قمة مآثره الجبارة.

لقد آن الأوان لمبارك لأنْ يتجرع الكأس التي أذاقها لآخرين.. بما انه هو الذي وأد جهود القادة العرب لاحتواء حماقة غزو الكويت، فطوى سجل الأزمة بيديه الآثمتين بقرار (قمة) لم يحصل على الإجماع، في سابقة ما عرفتها لا الجامعة العربية ولا مؤتمرات القمة العربية.

وهو في ذلك أعطى الضوء الأخضر لأمريكا لضرب العراق ضربتها الرعناء التي استهدفت شعب العراق وأطفال العراق لا نظامه المستبد. ومن تداعيات هذا الحصار التي قد لا يعرفها الإخوة العرب، انهيار الدينار العراقي وتراجع قيمة الراتب الشهري للموظف الحكومي إلى ما يعادل ثلاثة دولارات شهرياً مما قاد شعباً كاملاً إلى جوع ما عرفه في تاريخه، وادى إلى هجيج الملايين من العراقيين في أصقاع الدنيا بحثاً عن لقمة العيش الشريفة.

هنا أتذكر رحلتي البرية المريرة، منتصف التسعينيات من بغداد إلى الجبل الأخضر في ليبيا التي كانت إحدى البلدان العربية الثلاث الوحيدة التي فتحت أبوابها للعراقيين في مأساتهم إلى جانب الأردن واليمن، بينما لم يكتف نظام حسني مبارك في غلق أبواب بلده أمامهم، بل منع حتى مرور أي عراقي به. وعودة رحلتنا المريرة تلك أتذكر أننا فوجئنا بعد عبورنا بحراً من العقبة الأردنية إلى نويبع المصرية بأننا غير مسموح لنا بمس التراب المصري، حتى وإن كنّا عابرين له إلى بلد آخر. وهكذا أركبتنا شرطة الحدود المصرية في باص ليأخذنا إلى الحدود المصرية الليبية، وكان علينا أن نقضي فيه حوالي ستٍّ وثلاثين ساعة دون النزول منه، وبرفقة صول لم تسمح له طيبته العربية في أن يحاصرنا، فكان طوال الطريق يعتذر منا ويسمح لنا بالنزول في بعض المناطق على مسؤوليته لتناول الطعام أو قضاء الحاجة أو الاستراحة.

واليوم وأنا أسترجع هذه التجربة المريرة يتمثل لي هذا الصول الشريف الطيب رمزاً لهذه الأصوات التي هدرت ولا زالت تهدر في ساحة التحرير. أما حسني مبارك الذي عذّبنا وعذب غزة وباقي العرب الشرفاء فلم يستحق من شعبه غير كلمة (ارحل).