اتسم تعامل الإدارة الأمريكية ووسائل إعلامها مع ثورة الشباب المصري الشعبية التي اندلعت شرارتها من داخل ميدان التحرير إلي الكثير من عواصم المحافظات المصرية يوم 25 يناير بكثير من التروي والترقب والحذر.. وظلت لمدة أربعة أيام ( حتى مساء يوم 28 يناير ) تقيسها بمقياس احتجاجاتها ( هي ) التي تستوجب استكمال مسيرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي بدأها النظام التي شهدتها البلاد عام 2005.. لكن قلة من السياسيين يساندهم جانب من الإعلام استشعر مما يجري أنه يعبر عن رسالة مقلقة علي الغرب أن يعي أنها تعني انتهاء فترة الاستقرار المصطنع الذي ميزت حكم مبارك..

بالطبع لا حظ سياسيو الغرب ووسائل إعلامه غياب تنظيم الأخوان المسلمون وشعارهم الأشهر quot; الإسلام هو الحل quot; بين جنبات ميدان الثورة وامتداداته.. كما فاجأهم قدرة القيادات الشبابية علي استخدام مستحدثات العصر ndash; خاصة الفيس بوك - في التنظيم والتوعية والتنسيق ودعم الصمود وطرح الشعارات التي عكست بشكل مباشر المطالب الحقيقة التي أبعدت نفسها عن أي تيار سياسي معارض أو محظور أو مستورد..

طوال تلك الأيام الأربعة..
-ندد المتحدث باسم البيت الأبيض بمحاولات القمع التي لجأت إليها السلطات المصرية للوقوف أمام تنامي الدعم الشعبي الذي حظيت بها قيادات الثورة..
-ونصحت وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون الحكومة المصرية quot; المستقرة quot; بأمرين متلازمين.. السماح بتواصل المظاهرات السلمية وتفعيل حزمة الإصلاحات التي تأخرت في تنفيذها طويلاً..

-وعلق بعض الدبلوماسيين الذين سبق لهم تمثيل بلدهم في القاهرة، أن مصر تحتاج quot; لكي تواصل مسيرتها تحت قيادة مبارك quot; إلي إصلاحات جذرية وليس إلي ثورة !!..
-وأقصي ما بلغنا من تصريحات ndash; في تلك الفترة - جاء علي لسان مجموعة من أعضاء الكونجرس الذين طالبوا إدارتهم بزيادة الضغط علي مبارك لتقديم quot; مجموعة متنوعة من التنازلات الضرورية بدلا من قمع المتظاهرين بالقوة الغاشمة quot;..

في اليوم الخامس الموافق 29 يناير، صبيحة يوم جمعة quot; التخلص من الخوف quot;..
لاحظت دوائر صنع القرار الغربية تغيراً ملموساً في لهجة واشنطن التحذيرية !!..

بدأت التقارير السياسية في الربط بين ما يجري في القاهرة باعتباره ثورة تهدد الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبين استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط.. هذا بينما أجمعت وسائل الإعلام علي فشل قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في quot; قراءة ثورة القاهرة والتنبؤ بما يجري فوق شوارعها quot;.. واعترف العديد منها بعدم قدرتهم ndash; القادة - علي quot; استيعاب أو فهم ما يجري quot; ومن ثم طالبهم المحللون من ناحية بـ quot; التوقف عن الإيحاء بالقدرة علي التأثير في الأمور quot;، وبالاستعداد من ناحية أخري quot; لمرحلة ما بعد سقوط نظام حكم مبارك quot; لأن ما كانوا يغدقونه من أوصاف علي هذا النظام تلاشي مع هتافات الثورة..

عكست وسائل الإعلام الأمريكية فيما يلي من أيام تزايد مشاعر الغضب بين المتظاهرين تجاه الرئيس الأمريكي، لأنه في رأيهم لا زال يؤيد بقاء مبارك، ونقلت إحداها ترجمة حرفية لشعار حمله مجموعة من الثوار يقول quot; لا يا أوباما، لا تؤيد مبارك quot;.. وبينما لاحظ البيت الأبيض quot; فشل القوات المسلحة في احتواء الفوضى التي عمت البلاد، شد انتباهه ما أعلنه قادة الجيش المصري من أنهم لم ولن يطلقوا النار علي الشعب حتى لو quot; تلقينا أوامر بذلك quot;..

مهدت هذه الانعكاسات وتلك الملاحظات لنقلة موضوعية في الموقف الأمريكي الرسمي تمثلت في المطالبة الصريحة بـ quot; الانتقال المنظم للسلطة في مصر quot;.. وعزت بعض التحليلات هذا الموقف quot; المائع quot; بأنه quot; خشية واضحة من سقوط ثمرة الثورة ناضجة في يد جماعة الأخوان المسلمين quot; الذي يعتبرها الغرب بعامة quot; نظاماً تعسفياً رجعياً سيقلب الموازين إن هو وصل إلي السلطة في مصر quot;.. هذا بينما ظلت التحليلات الموضوعية تؤكد محدودية دورهم في الثورة الشبابية الشعبية ودللوا علي ذلك بقلة كوادرهم واختفاء أدبياتهم التي اشتهروا بها..

هذا التردد المتواصل من جانب الإدارة الأمريكية حتى الثاني من فبراير زاد من مشاعر الغضب لدي غالبية شرائح المجتمع المصري وتحول لدي الكثير منهم إلي كراهية بعد أن شملت موجات الثورة الرقعة الأوسع من الأرض المصرية.. وتساءل البعض علانية عن أسباب quot; غبائُها quot; غير المنطقي الذي فرض عليها عدم الإفصاح عن تأييد المطالبة بـ quot; رحيل مبارك quot; بينما معطيات الثورة تملي علي واشنطن العمل علي تحسين صورتها وبدء علاقة quot; أكثر عقلانية مع الشعب المصري quot; تعبر عن مرحلة جديدة في علاقاتها المتجذرة مع كبريات العواصم العربية والإسلامية..

ربما نتوافق علي أن إدارة أوباما اتسمت في تلك الأيام بـ quot; الجبن والضعف quot;.. وأنها ومعها غالبية العواصم الغربية لم تعي حقيقة أن الثورة الشبابية الشعبية المصرية فضحت عدم قدرتهم جميعاً علي تحويل النظم العربية الديكتاتوريات إلي ديموقراطيات.. وان فشلها في ترسيخ التخويف من الإسلام السياسي لم يكن إلا أكذوبة عاشت عليها أجهزتها الأمنية والسياسية سنوات طويلة، لكن الحقيقة التي أزيح عنها الستار في الأيام التالية أكدت أن المسألة لم يكن فيها جبن أو ضعف بقدر ما كان فيها من محاولات متتالية من جانب البيت الأبيض للإبقاء علي نظام مبارك ضد إرادة الجماهير لأنه يمثل بالنسبة لها ركيزة للاستقرار والطمأنينة ومن ثم القدرة علي مواصلة تنفيذها خططها الإستراتيجية في الشرق الأوسط علي مستوي كافة مشاريعها الإقليمية والمحلية خاصة ما يتعلق بأطر وحلقات السلام المصري الإسرائيلي مهما اتصف بالبرود والجمود والسلبية..

قد يكون للمعركة المضادة التي شنها نظام حكم الرئيس مبارك ضد الجموع الشعبية وما أسالته من دماء وأوقعته من مصابين وما كشفت عنه من هشاشة النظام وعجزه عن التعامل السلمي مع الثورة الشعبية من ناحية ووحشيته وافتئاته علي الحقائق من ناحية أخري، النصيب الأكبر في تحويل الموقف الأمريكي الرسمي من تأييد نظام مبارك إلي الرفض الواضح quot; لأفعال هذا الحليف الذي تدعمه الإدارات الأمريكية المتعاقبة بلا روية quot;.. كما ساهم فيه بشكل ملحوظ ما أكدته الوقائع العملية من وقوف الجيش إلي جانب القوي الشعبية..

تبلور هذا التحول فوراً فيما وصف بضرورة قيام النظام المصري بتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء حوار موسع مع جميع القوي السياسية بما فيها تنظيم الإخوان المسلمين، والتمهيد لإجراء انتخابات حرة ونزيهه من اجل الترتيب لنقل السلطة بشكل سلمي.. ثم انتقل إلي المناداة بـ quot; تنحي الرئيس مبارك وبتسليم السلطة بشكل سلمي quot; إلي نائبه.. وتطور بعد ذلك إلي تصريح للسيناتور جون ماكين وصف فيه عدم قيام الرئيس أوباما بالعمل علي إزاحة الرئيس المصري بأنه quot; أمر مؤسف quot; وطالب بضرورة تجاوب الإدارة مع مطلب quot; إسقاط النظام quot; الذي تتمسك به الجماهير، هذا في حين عبر الرئيس مبارك لشبكة ِA.B.C الأمريكية عن استياءه الشديد مما يجري من مظاهرات واحتجاجات..

أتاح هذا التغير الجذري الذي لحق بموقف واشنطن لوسائل الإعلام الغربية فرصة لتأكيد مسافة التباعد في الرؤية بين الطرفين.. مما دفعها لتوسيع زوايا مطالبتها بضرورة إعادة تقييم المواقف الغربية من النظام المصري برمته quot; لأن ذلك سيقود حتماً إلي تغيير مواقفها من النظم العربية كلها quot; وربما يمكن استنباط quot; رؤية جديدة للتخفيف من حدة التوتر في المنطقة quot;.. ولتأكيد أن التحولات التي ستطرأ علي المنطقة ستوفر المناخ الإيجابي الواقعي لدعم الديموقراطية بدلا من مساندة الديكتاتورية..

وبالرغم من كل ذلك، لم تتوحد كلمة الغرب بقيادة الولايات المتحدة حول مطالبة الرئيس المصري بالتخلي طواعية عن الحكم بسبب quot; الاعتبارات الإستراتيجية التي تربطها جميعاً بنظامه quot; رغم الضغوط الداخلية التي كانت تمارس شعبياً ومؤساستياً علي تلك العواصم..
إذن..
هذه الروابط الإستراتجية كانت هي المعضلة التي يبحثون لها عن حل !!..
قالوا فيما بينهم..
إذا كان الظرف الراهن يقتضي التخلي عن نظام حكم مبارك ويفرض احتضان الثورة الشبابية الشعبية ويحتم التغاضي عن البديل المرتقب ذو الملامح غير الواضحة، فلا بد أن نضمن في نفس الوقت عدم استيلاء المجموعات الراديكالية علي الثورة..

في هذه الآونة تناقلت وسائل الإعلام العالمية تصريحات المبعوث الأمريكي الشخصي السفير فرانك ويزنر والتي قال فيها quot; إن بقاء الرئيس حسني مبارك في الحكم يعد صمام أمان للمنطقة بأسرها quot;.. وعكست ما سببته من حرج بالغ للإدارة الأمريكية داخلياً وخارجياً خاصة بعد ما عُرف من علاقته بشركة quot; باتون بوجز quot; الأمريكية للاستشارات القانونية التي كانت تقدم خدماتها لمؤسسة الرئاسة المصرية وكذا لحكومتهة ولقواتها المسلحة..

في اليوم التالي لهذا التضارب بين وجهتي النظر الأمريكيتين حول الإبقاء علي نظام حكم الرئيس مبارك أو مساندة مطلب إسقاطه، أعلن نائب الرئيس المصري تنحيته ( مبارك ) عن الحكم ونقل سلطاته إلي المجلس الأعلى للقوات المسلحة!
اتضح بلا اعوجاج أن قيادات الجيش لعبت بمهارة دور الوسيط المتمسك بمصلحة الشعب..
وفور تسلمها للسلطة، صدر عنها من القرارات الإجرائية والتنفيذية ما طمأن الداخل المصري بكل طوائفه وتياراته السياسية، وكذا الخارج الإقليمي والدولي.

-انه سيعمل علي نقل السلطة إلي حكومة مدنية..
-سيعمل علي تغيير بعض مواد الدستور التي مثلت إشكالية قانونية
-وسيجري انتخابات حرة وشفافة يشرف عليها القضاء
-وانه سيحافظ علي تعهدات مصر الدولية
تُجمع تعليقات الشارعين السياسي والإعلامي في كبريات العواصم الغربية أن هذه التطمينات أراحت جهابذة الفكر السياسي والأمني لواشنطن علي وجه التحديد..
أولا.. لأنها أكدت علي أن التحول السلمي سيتم دون معوقات أو مشاكل، لذلك بدأت واشنطن تتحدث عن النموذج التركي في الحكم كمثال يمكن أن يَحتذي به النظام المصري الجديد في إدارة شئون البلاد خلال الفترة التالية..
ثانيا.. بدأت تبعث برسائل لتنظيم الإخوان المسلمين تنصح قادته بضرورة خفض سقف طموحاتهم، لأن نتائج الثورة الشبابية الشعبية المصرية تشير إلي محدودية تأثيرهم في توجهاتها..

وبالرغم من أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يعلق بشئ علي عرض النموذج التركي عليه لكي تتخذه مصر مثلاً، سارع قادة تنظيم الأخوان المسلمين بالتعبير عن طريق وسائل الإعلام الخاصة بهم وكذا قنوات التلفزيون الرسمي المصري - التي كانت مغلقة أمامهم منذ عام 1960 ndash; أنهم لن يرشحوا واحدا منهم للتنافس علي منصب رئيس الجمهورية ولن يتنافسوا برلمانياً علي مستوى جميع دوائر القطر الانتخابية..
وهكذا حصلت الولايات المتحدة بشكل رسمي وعلني..
علي ما يؤكد quot; ضمان quot; استقرار خططها الإستراتيجية بلا قلاقل علي الأقل لفترة الستة أشهر قادمة، لذلك سارعت إلي تهنئة الشعب المصري بزوال حكم مبارك..
واعترفت بان ما شهده ميدان التحرير هو ثورة تهدف إلي نقل نظام الحكم المصري نقلة نوعية ناحية الديموقراطية..
وأبدت الاستعداد لتقديم الدعم المادي والمعنوي لتحقيق هذه النقلة بشكل حضاري يتناسب وما قام به الشباب المصري..
ودلل الرئيس الأمريكي علي مصداقية موقف إدارته عندما حيا الشباب المصري وطالب شباب بلاده أن يتخذه قدوة له!
أما كونداليزا رايس وزير الخارجية السابقة، فقالت في مقال لها بصحيفة واشنطن بوست يوم 17 فبراير quot; لا يمكننا أن نقرر أولويات السياسة الخارجية للحكومة المصرية التالية، ولكن في مقدورنا أن نؤثر عليها من خلال علاقتنا مع الجيش وروابطنا مع المجتمع المدني وعن طريق تقديم الوعد بتوفير مساعدة اقتصادية وتجارة حرة للشعب المصري تساعد علي تحسين الظروف المعيشية لغالبية أبناؤه quot;..

bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]