بعد أربعة أعوام على قيام الوحدة بين جنوب اليمن وشماله وقبل بدء حرب التوحيد القسري في العام 1994 باشهر قليلة، التقيت صديقة يمنية من حضرموت، المدينة العريقة في تاريخها وتجارتها، فضلاً عن مواهب شعبها، سألتها عن حال بلادها وما أصابها من منافع التقاءquot; الشطرينquot; ، فقالت مازحةً وجادة في آن: ألخص لك quot;مكاسبquot; الجنوب من الوحدة بثلاث: إباحة تعدد الزوجات، ترويج اقتناء السلاح ورفع التقنين عن تعاطي القات . ومن المعروف ان القانون الجنوبي كان يفرض ضوابط مشددة على التعدد، ويسمح بشراء القات في يوم واحد من الاسبوع، كما يمنع اقتناء السلاح)، تذكرت هذه السيدة وزوجها القيادي المناضل في الحزب الاشتراكي اليمني الذي قتل غدرا في تلك الحرب، وأنا أتابع بألم تساقط الضحايا الثائرين الذين لايجدون العلاج الكافي او يلفظون انفاسهم قبل ان تمتد لهم يد العون، بينما يجد الطاغية فرصة للعلاج بأرقى المشافي وهو المتسبب بكوارث الشعب اليمني، منذ ان امتدت يده الآثمة للمساهمة في اغتيال الرئيس اليمني الاسبق إبراهيم الحمدي واخيه المقدم عبد الله، في العام ،1977 وتحمله وزرتصفية االمنتفضين في العام 1978، ومسؤوليته عن اغتيال عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، ومشايخ من مدينة تعز. ثم تزاحمت خطاياه في السنين اللاحقة،حين تراكمت العقبات في طريق دولة الوحدة وقادت الى توقيعه لوثيقة العهد والاتفاق مع قادة الجنوب، فما كان منه الا ان انقلب عليها ومزقها، ليشعل حرباً شعواء، ويعلن انتصارquot;الوحدةquot; فوق أشلاء ابناء الجنوب، ثم ليطبق بحكمه على صدور شعب اليمن ويكمم أفواهه. وبينما راح الهتاف يعلو ضد طغيانه، والأرض تستغيث من وقع أقدام أتباعه، والساحات تزهو بقامات النساء والرجال، معاً لصناعة الأمل بعهد جديد، انطلقت قذائف الحل الأمثل من مكان ما، لتصيب علي عبد الله صالح، وتنهي آخر حلقة من مسلسل غروره وصلفه، فاتحة الباب لتنفيذ المبادرة الخليجية. ها قد اختلف حلفاء الامس (آل الأحمر وصالح) وتصارعوا من اجل البقاء في السلطة، في مواجهة صرخة الشارع الغاضبة والرافضة لنهج أركان الحكم جميعاً. وسواء جاءت الضربة من منطقة عائلة الأحمر المتنفذة، أو من تدبير ضباط مقربين من صالح، فان ذلك لا يغير من ضرورتها وسلامة توقيتها. ولا يمكن برأيي النظر الى سفر الرئيس المصاب الى السعودية، الا كونه تعبيرا عن عملية إلقاء قبض ملطفة قام بها أصدقاء له، طالما انتشلوه من مآزق كبيرة، وغفروا له زلات خطيرة، كان اسوأها وقوفه الى جانب صدام بعد غزوه لدولة الكويت، وتسببه بقطع أرزاق الالوف من اليمنيين الذين كانوا يعملون آمنين في الكويت. فالمملكة العربية السعودية وعبر عقود ماضية، كانت قوة اساسية في مجمل الصراعات اليمنية، الداخلية منها والخارجية، وبشكل خاص منذ أن ناهضت الحكم الجمهوري وعارضت التدخل المصري العسكري في اليمن بعد العام 1962 الذي استهدف إنقاذ الجمهوية، وتكريس سياسة عبد الناصر في تزعم البلدان العربية. وقد شكلت السعودية ما عرف آنذاك ب quot;اللجنة الخاصةquot; في العام ،1962 برئاسة الأمير سلطان بن عبد العزيز وكان الغرض منها دعم مقاومة الملكيين للنظام الجمهوري الذي انتهى حكم أول رؤسائه المشير عبد الله السلال في العام 1967 بنفيه خارج البلاد، ولكن دون عودة الملكية. ويذكر ان هذه اللجنة مازالت قائمة، وتتنوع اهتماماتها مابين دعم شيوخ قبائل معينين ورعايتهم،الى تمويل مشاريع كبيرة، وحل كبريات المشاكل في اليمن، وهي تتمتع بميزانية طائلة، هذا على اختلاف المصادر في تقييم عملها ومدى ضرورتها، وبصرف النظر عما يثار بشأنها من اعتراضات.
وللوقوف على إمكانات حل الأزمة اليمنية، يستحسن الأقتراب من حيثيات مبادرة الأشقاء، فهي تنص على تعهد رئيس الجمهورية منذ اليوم الاول لتوقيعه على المبادرة، بأن يكلف المعارضة quot; بتشكيل حكومة وفاق وطني بنسبة 50 في المئة لكل طرف (الحكومة والمعارضة) على أن تشكل الحكومة خلال مدة لا تزيد على سبعة أيام من تاريخ التكليف.. quot; ومقابل ذلك يتعهد مجلس النواب، مشتملا على ممثلي المعارضة، بان يوافقوا على قوانين تكفل للرئيس وبعض ممن عمل تحت إمرته، حصانة من الملاحقة القانونية.
- وquot; في اليوم الثلاثين من بداية الاتفاق وبعد إقرار مجلس النواب بما فيه المعارضة لقانون الضمانات يقدم الرئيس استقالته إلى مجلس النواب ويصبح نائب الرئيس هو الرئيس الشرعي بالإنابة بعد مصادقة مجلس النواب على استقالة الرئيسquot;
وبعد ذلك تشير المبادرة الى وجوب دعوة الرئيس بالإنابة الى انتخابات رئاسية، والى تشكيل لجنة لإعداد دستور جديد واستفتاء الشعب عليه، ومن ثم الدعوة الى انتخابات برلمانية، وتشكيل حكومة من قبل الحزب الذي يفوز بأعلى الاصوات. وكانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد عبرا عن رعايتهما لهذا الاتفاق.
وقبل التطرق الى حظوظ المبادرة من النجاح، من المفيد الاشارة الى الدور الفعال للمملكة السعودية في معالجة التصدعات في بنية الحكم اليمني، وذلك عبر علاقاتها المتميزة بالشيخ الراحل عبد الله بن حسين الأحمر شيخ قبائل حاشد ومؤسس حزب التجمع اليمني للإصلاح في العام 1990، الذي عمل جاهدا لمساعدة علي عبد الله صالح في تبوأ مراكز متقدمة في الدولة، ثم إيصاله الى الرئاسة في سنة 1978 ، وظل الشيخ مواظبا على إسناد صالح، ولولاه لما ظل في الحكم طيلة هذه المدة. وبعد وفاته في سنة 2007 بويع ابنة صادق الاحمر لمشيخة حاشد، وكان قد عاهد أبيه على استمرار الولاء للرئيس، لكنه نكث بوعده بعدما شهد ثورة الشارع، فانحاز لها بنية تصدرها والمحافظة على مكانة مشيخته وامتيازاتها، لا حبا بالثوار أو اقتناعا بمطالبهم، وهنا تجدر الاشارة الى ما يقال عن اخ الشيخ، حميد الاحمر،من انه اتخذ مواقف معارضة لنظام صالح منذ ما قبل العام 2008 وزاد عليها بعد هذا التاريخ بان دعى الى هبّة أو ثورة شعبية، وفي الوقت نفسه اجرى اتصالات مع اقطاب في المعارضة الجنوبية والتقى بعضهم في عواصم خليجية، بهدف التنسيق معهم للاطاحة بحكم صالح، ولكن بعيدا عن فكرة الخروج على دولة الوحدة.
ومهما كانت حظوظ النجاح لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، فإنها ستواجه معوقات كثيرة، ليس ضمنها بالطبع توقيع الرئيس لأنه فقد امكانية المعارضة. أولى العقبات هي تشكيل حكومة وفاق وطني بين المعارضة واطراف الحكم، أي حكومة ضعيفة تتجاذبها الإرادات والتوجهات المختلفة، ما يقف حائلا بينها وبين تحقيق مطالب الشعب، كما ان الثائرين الذين أوجدوا متطلبات التغيير وفرضوه بقوة الاحتجاج وشموله، غير ممثلين في المعارضة المعترف بها. بالاضافة الى ذلك فان الانتخابات التي سيدعو لها الرئيس لن تأتي بجديد يعتد به في خارطة الاحزاب الفاعلة، ولكون الظروف السياسية وما شهده اليمن من صراع دموي، يحتاجان الى فترة نقاهة طويلة يسود فيها الأمن ويتأمن ولو الحد الأدنى من متطلبات المعيشة للناس، ما يقلل من احتمالات استغلال أصواتهم الانتخابية تحت طائلة الحاجة. إن الثورة غالبا ما تؤدي الى حالة من الفوضى، تستثمرها الاطراف القوية والمنظمة، وعاملا القوة والتنظيم لا يتوفران حاليا لثوار اليمن، لذلك فإن أي استعجال بإجراء الانتخابات سيصب في مصلحة الاحزاب القوية والثرية (الاصلاح والمؤتمر الوطني)، وهي نفسها التي شكلت بنية الحكم. إن هذا بلا شك ما لا تعترض عليه المبادرة، بل ربما هي تسعى اليه، لكنه لا يؤدي الى حل الأزمة اليمنية ولا ينهي غضب الشارع، ومفعوله اشبه بهدنة مؤقتة.
أما مسألة الاتفاق على دستور جديد فهي مرتبطة بمن سيفوز باكبر حصة في برلمان ما بعد الانتخابات، ومهما قيل عن حجّية استشارة الشعب أواستفتاء رأيه بشأن نصوص الدستور، فإن الواقع لا يشير الى تقدم في وعي الناس أو معرفة كافية بدلالات النصوص وما تعنيه في التطبيق، فضلاً عن ان المواد الخاصة بحقوق الانسان الاساسية في معظم الدساتير العربية لاتجد طريقها الى الحياة العامة. وكأننا هنا نستنسخ التجربة العراقية، فبعد القضاء على صدام حسين في العام 2003 ، تكاثرت الدعوات المطالبة بإجراء الإنتخابات، فاجريت على عجل وكان من نتائجها صياغة دستور مرتبك وفاسد في بعض جوانبه، على الرغم من توافره على بعض النصوص والمبادئ الجيدة.
والأقرب الى الواقع كما يبدو لي سواء تعلق الامر بالمبادرة الخليجية او غيرها، إن الحل لمشكلات اليمن المستعصية في ظل مجتمع يسود فيه الولاء القبلي قبل الوطني، فالقبيلة في اليمن الشمالي، بخاصة هي الوطن، وهي التي تحمي افرادها بسلاحها، وبهذا المعنى فهي دويلة مصغرة، الحل في أن تتحول مناطق القبائل الى فيدراليات تتحد في إطار الدولة اليمنية، وهذا لا يخرج عن الأسس القانونية لمبدأ الفيدرالية، فالقبائل تتمتع بكيانات مستقلة عن الدولة، ولديها هيئات أركانها العسكرية غير المعلنة، ومخزون سلاحها الذي لا يقتصر على المسدسات والبنادق، وانما يشمل قواعد اطلاق الصواريخ والراجمات والمدافع وما شابه ذلك، وفي هذا السياق اتذكر قول أحد السياسيين الجنوبيين، ساخرا من الواقع اليمني المسلح: quot; نحن أكثر تطوراً من الولايات المتحدة، فماذا لديهم غير الاسلحة الخفيفة quot;. وبهذا الوصف فإنه لا مجال للقفز على سلطة القبائل الواقعية، فان اي مشكلة واي حل لايمكن ان يتم دون الإتفاق مع زعمائها والتراضي معهم. إن مشكلة انتشار السلاح لا ينبغي ان يستهان بها، ومعروف في اميركا، إن أي محاولة إصلاحية تتناول الحد من تجارة السلاح وتحديد اقتنائه أو منعه، تجابه بمقاومة شديدة، هذا في مجتمع مدني ومؤسساتي متطور فكيف الحال في اليمن. وهذا ما ادركته المملكة السعودية وعملت باتجاهه في مراحل تاريخية مختلفة عبر اللجنة الخاصة التي مر ذكرها وغيرها من الآليات. وكمثال على ذلك ما ذكر من ان ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز، استقبل عدداً من مشايخ المناطق والمحافظات الحدودية بين اليمن والسعودية (صعدة، الجوف، مأرب، عمران)، وغيرهم ، مما جاوز المئة وذلك وفي إطارالبحث عن إمكانات السيطرة على حركة الحوثيين.
إن ما تقدم من التفاصيل أكثر تعلقا بشمال اليمن، فمن المعلوم إن محافظات الجنوب خضعت لحكم مركزي قوي منذ قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعد الاستقلال، ونجحت حكومتها في إرساء هيبة الدولة لما اعتمدته من نهج شمولي، فالجنوب لم يكن يشكو من آفة السلاح وتضخم القبائل، وعلى الرغم من فرض الوحدة بالقوة والتغيرات التي حصلت في بنية المجتمع، فان الذاكرة ما زالت حية ويمكن للناس ان يستحضروها ليدركوا كم اضّر بهم الاندماج مع الشمال. ومن الملاحظ على مبادرة مجلس التعاون الخليجي، انها ركزت على مسألة السلطة وحيثيات تداولها، ونهجها السياسي، أي انها على حد قول الدكتور محمد حيدرة مسدوس، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، الذي يثني على المبادرة ويرى انها عقلانية ومخرج معقول، لكنهاquot; جاءت استجابة لواقع الشمال وليس الجنوب quot; (مقتطف من حديثه الى قناة الحرة في الثاني عشر من نيسان)، فالجنوب برأيه غير مشمول بها، لان الجنوبيين يبحثون عن وطن جرى احتلاله من قبل سلطة الشمال، وان هذا الاحتلال أو الاستيطان هو اسوأ من الاحتلال البريطاني، على حد قوله . وباعتقادي ان هذا القول لا يبتعد عن الصواب، وقد تمنى الدكتور مسدوس على اخوته الخليجيين ان يلتفتوا الى جنوب اليمن، ولكن هل تقابل مثل هذه الامنيات بالاستجابة، أم ان التراث الماركسي لقادة الجنوب مازال حاضراً في الذهنية السياسية الخليجية؟ سؤال مشروع يجدر ان يحظى بجواب قبل ان تتمدد القاعدة في محافظات الجنوب، وكان علي عبد صالح في سياسته الشرّيرة لإخضاع الجنوبين، قد اطلق يد السلفيين ضدهم، لقهر نزعتهم التطورية والغاء ما تم لهم من مكاسب اجتماعية، على الرغم من كثير من المؤاخذات على نهج الحكم الاشتراكي قبل الوحدة. وليس احتلال مسلحي القاعدة لجزء من مدينة زنجبار في محافظة أبين الجنوبية، خاليا من دلالة، كما انه لم تسجل عمليات مهمة للقاعدة في شمال اليمن خلال سنوات طويلة.
التعليقات