كلما هممت بالكتابة عن سوريا أجد قلمي يقودني الى العراق، ربما لتوحد عقدة البعث أو لمتانة حبل العلاقة بينهما في التاريخ الحديث، فمليك العراق فيصل الأول الذي نصّب في العام 1921 مع تأسيس الدولة العراقية، كان قد تولى العرش في دمشق في العام 1918 حتى أقصاه الغزاة الفرنسيون بعد عامين. ومع تنامي حركة الحريات السياسية في سوريا بعد العام 1954 إثر تخلصها من محنة الانقلابات العسكرية وعودتها الى المسار الديمقراطي، كان العراقيون يتطلعون اليها كمثال للتحرر وظهير لهم في نضالهم للإنعتاق من الحكم الملكي وإرساء حياة برلمانية، فقد عرفت سوريا أول برلمان في العام 1919 على الرغم من سطوة الإحتلال، كما دخلت العهد الجمهوري منذ العشرينيات. غير إن ربيع الحريات فيها واجه نهايته بفعل ضغوط عربية ودولية قادت الى دولة الوحدة فاستبدلت الديمقراطية الناشئة وحلت الاحزاب لصالح زعامة مطلقة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وأدواته الأمنية المطبقة. ولم يكن العراق بعيدا عن هذا الإنقلاب، فما ان قامت ثورة تموز- يوليو في العام 1958 وبدأت قيادتها تباشر مهام المحافظة على الكيان الجمهوري وتتصدى لمؤامرات دول حلف بغداد، حتى وجدت نفسها أمام دعوات غريبة تطالبها بالتحول عن استحقاقات البناء الوطني لتصبح إقليما في الجمهورية العربية المتحدة، وإلا فان الاحتراب الداخلي في انتظارها، وهنا كان دور قيادة الإقليم الشمالي (سوريا) في تنفيذ المؤامرات ضد حكومة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وقد اصاب ذلك الجهد التآمري هدفه ولكن على ايدي البعثيين في شباط - فبراير من العام 1963 بعد سقوط دولة الوحدة بعامين، فكانت البداية لجبروت الحزب القائد الذي زرع الدمار، عراقيا وعربيا. وما هو الا شهر واحد حتى تحرك انقلابيو دمشق فكان الثامن من آذار يوم وصول البعث السوري الى السلطة، الذي هيأ الارضية لإعلان اتفاق الوحدة الثلاثية بين كل من العراق وسوريا ومصر.
ثم يمضي الزمن وتتوالى حكايات جناحي البعث بين وصل وقطع، وتآمر عراقي مكشوف لتغيير المعادلات في سوريا بوسيلة دعم نشاطات الاخوان المسلمين تفجيرا واغتيالاً لمسؤولين ولكوادر مهنية غير سياسية، حتى نصل الى يوم السادس والعشرين من شهر اكتوبر العام 1978 حين تناهت عبقرية الطرفين الى توقيع ميثاق العمل القومي المشترك في بغداد، واتجها الى ترميم العلاقات، وبدا ان مرحلة الخلاف والشقاق بينهما قد ولّت. وعلى الرغم من حاسة الشك المتأصلة لدى العراقيين إزاء البعث بعامة، وحكامهم بخاصة، فقد توافدوا حشودا على أبواب دمشق، تحملهم فرحة غامرة وأمنيات بعودة التواصل بين الشعبين، وتمكين العوائل على أطراف الحدود من العبور الآمن والتزاور دون خوف. فعامة الناس في العراق من غير الاثرياء يتوقون دوما الى الشام، كأقرب دار في الجوار يستريحون فيها من هجير صيفهم، ويأنسون الى طبيعة أهلها الميالة الى الرضا، مقارنة بما ابتلاهم التاريخ من نزوع الى التذمر. وفي المقابل، أبدى أهل الشام حفاوة عفوية، لا يشوبها حساب المكاسب التجارية، وانتعشت الأسواق بدهشة الوافدات والوافدين.
وكانت تلك الايام من الانفتاح بين الحكومتين، فرصة لأحد السياسيين العراقيين في أن يبحث عن قريب له غادر العراق الى سوريا لتأدية الخدمة العسكرية، كونه من أب سوري، واختفت آثاره هناك، جال في كثير من المدن السورية علّه يهتدي اليه حتى قارب اليأس وصادف ان همس له صديق بأن الشاب المفقود ربما قاده قدره العاثر الى أحد السجون ووقع ضحية تصفيات عدة كان ينظمها قائد سرايا الدفاع رفعت الاسد الذي اسندت اليه مهام قمع المعارضين وتحمّل بالتالي مسؤولية مجازر لا تحصى منذ العام 1978 وحتى سنة 1982 التي شهدت الهجوم على مدينة حماة وتدمير ثلثها وقتل ما يزيد على ثلاثين الف من سكانها. وما زلت أذكر ما قاله لي معارض سوري اثناء اقامتي بدمشق في تلك الفترة الدامية، من ان أطفال حماة ممن فقدوا اهلهم، كانوا يقتادون الى الجوامع في حمص لحث الناس على تبنيهم، وكذلك ماسمعته من جندي خدم تحت إمرة اللواء السابع والاربعين الذي تولى محاصرة المنطقة الجنوبية من حماة، الذي قال بانه كان مرغما على اطلاق النار عشوائيا على المواطنين، دون تمييز بين من يحمل السلاح ومن كان مسالما خائفا. وفي هذا السياق وحسب أحد الشهود فإن المئات من نزلاء سجن تدمر من الاخوان المسلمين قد قتلوا في حزيران من العام 1980 والقى بهم في حفرة هائلة، كان هذا الشاهد واحدا ممن اجبروا على تجهيزها، وقد وقع بعد سنوات اسيرا لمرض الخوف من هول ما رأى، وجرى تبرير هذه الجريمة بما اقترفته الطليعة المقاتلة- جماعة متفرعة او منشقة عن الاخوان المسلمين- من جرائم القتل العشوائي لثمانين طالبا من مدرسة المدفعية في مدينة حلب، في العام نفسه. إن فكر الإخوان يستبطن العنف، وممارساتهم تشهد عليهم، لكن رد الفعل لايجوز ان يكون بإبادتهم وقتل الأبرياء من حولهم، فالصراع معهم فكري في جوهره ولابد ان يتركز على ترشيد التعلم الديني ونبذ سياسة التمييز الطائفي.

أعود الى ميثاق العمل القومي والى تلك السنة القاسية من عمر العراق (1978)، فقد جاء صيفها مشحونا بنذر الموت، بعد ان تولى صدام حسين الرئاسة رسميا في السادس عشر من تموز، وأقام حفلا دمويا مصورا لتصفية رفاق له في قيادة حزب البعث في الثاني والعشرين من الشهر نفسه. وقبل ذلك بشهرين حين كان نائبا للرئيس، اصدر قرارا باعدام واحد وثلاثين من العسكريين والمدنيين الشيوعيين، متخطيا وعداً رئاسياً بالعفو عنهم. وبالطبع لايمكن نسيان جرائم سابقة لنظام البعث، بحق العراقيين من الاحزاب الإسلامية، والمواطنين من غير المسيسين ممن يحيون المناسبات الدينية، قبل هذه التواريخ. وكان من نتائج علّو صدام إلغاء الميثاق القومي وعودة الصراع بين أشقاءquot;الرسالة الخالدةquot;، وتبدد حلم العراقيين والسوريين بعلاقات طبيعية. وما تقدم لم يكن سوى أول الآثام مقارنة بحرب السنوات الثماني مع ايران وتهجير الآلاف من المواطنين العراقيين اليها، ثم إبادة سكان حلبجة في كردستان وقتل ما يقرب من المئة وثمانين الف من الكرد في حملة الانفال، ولم تكن سنة 1991 هي الخاتمة حين سحقت الدبابات جموع المنتفضين في معظم مدن العراق، بعد حرب الخليج الاولى وعودة الجيش العراقي من الكويت محملا بمشاعر القهر والمذلة، والسخط علىquot; الأب القائدquot;.
والحق إن ما بين شقّي البعث من نزوع الى الإرتواء بالدماء لتوأمة تستحق التوثيق بحروف كبيرة، وفي الوقت نفسه فإن مابين بغداد ودمشق من أواصر قربى ومصالح مشتركة، بالإضافة الى الحقائق الجغرافية، ما لايمكن معه استمرار أجواء القطيعة، سواء أكانت معلنة ام مستترة، لذلك لم تكن سياسة حصيفة تلك التي اتبعها الحكم في سوريا في توريد الإرهابيين الى الى العراق، بدعوى مواجهة الاحتلال الاميركي، فقد دارت الدوائر ووجدنا الرئيس الاسد وقد فوجئ بانتفاضة شعبه، يطلق استغاثة من quot; العصابات والسلفيينquot; المزعومين، ماذا لو كان هذا صحيحا وكان بلد في الجوار هو الذي يجهز تلكquot;العصاباتquot;؟ إن هذا ما لا اتمناه لبلد مثل سوريا من ان يقع في قبضة الارهاب، فقد عاش ومازال آلاف العراقيين بين شعبها، وأمنوا من جور صدام في حماها.
لقد تولى زمان البعث في العراق كجسد وروح شرّيرة، لكنه باق في بعض ملامح الحاكمين وسلوكياتهم، فضلاً عن الكثير من قوانينه التي مازال مفعولها ساريا بعلم المسؤولين او جهلهم. أما في سوريا فقيادة هذا الحزب لاتريد الاعتراف بحتمية التغيير إن كان في السياسة او بالفكر، فقرارات الإصلاح لا تأتي الا بضغط الشارع وحين يبدأ تطبيقها تكون الأزمة قد تفاقمت ولا مجال لتداركها. والامر الاساسي الذي لا يدركه الحكام المستبدون هو ان من يتمادى في اضطهاد شعبه وزرع بذور الفساد في وطنه ورعايتها حتى تثمر ويحين قطافها، لا يمكن ان يتولى بنفسه مهمة الاصلاح واقتلاع الجذور الضارة. فالرئيس بشار الاسد لا شك انه حاول انقاذ هيكل النظام الذي ورثه عن والده، وكان في بداياته راغبا بالإصلاح، وقد يكون في نشأته البعيدة عن أجواء السلطة، مختلفا بعض الشيئ عن البنية المخابراتية التي كبلت البلاد بأغلالها منذ السبعينيات، والتي وجدت في استمرار عنوان الأسد في الرئاسة غطاءً لممارستها السلطة الحقيقية، لكنه تأخر كثيراً. لذلك فهو لا يملك القدرة اللازمة للمضي في طريق الاصلاح الى نهايته الا إذا اختار الإنقلاب على بناة دولة المخابرات واستعان عليهم بالشعب، وهذا خيار لا يبدو واقعيا فما اعتدنا من حكامنا ان يجددوا انفسهم ويتعالوا على فكرة الحكم الأبدي، فضلا عن إنه ليس من طراز القادة المتمرسين في السياسة، او من العسكريين العارفين بمكامن ضعف النظام.
إن انتفاضة السوريين في درعا واللاذقية وحمص وبانياس وغيرها من المدن، تعد مأثرة في قدرة الانسان على الصراع مع الموت، فقد نجحوا في عبور حاجز الخوف الذي أرسيت قواعده منذ مجزرة حماة، وبعد ان بدا لكل المتابعين للشأن السوري إن المستحيل أقرب من أن ينطلق أي صوت معارض للنظام، فإن مزيدا من الاصوات تعلو وتعلو منادية بحق الناس في عهد جديد يمنحهم نصيباً من الحرية والكرامة. فتحية لشعب سوريا الذي أكنّ له كل التقدير والمحبة بعدد السنين التي قضيتها في دمشق وكنت اشعر خلالها بأني في وطني.