أسعدتني تعليقات القراء الأفاضل على مقالي السابق عن العراق في إيلاف (25 حزيران) وكان بعنوان: حين تكون الديمقراطية لعنة، ذلك انهم منحوني مادة غنية ومتنوعة للكتابة مجددا. اتفق كليا مع ما ذهب اليه الأخ أبي ذر بأن الأمية لا تعيش مع الديمقراطية، وبالنسبة لي فأن الأمية الثقافية في العراق هي أخطر من الجهل بالقراءة والكتابة، فالأميون في مجتمع ما قبل الاسلام، استطاعوا أن يميزوا بين دعوة الرسول الى نصرة الفقراء والعبيد، وبين ما كان يأمرهم به أسيادهم الأثرياء من الإخلاص
لآلهتهم القديمة، انحازوا لتلك الدعوة حين أظهرت لهم جانب المساواة في الانسانية. أما في العراق فان الكثير من المتعلمين على اختلاف مستوياتهم، وقعوا ضحية لتضليل مراجع دينية، أوهمتهم بأن الامتناع عن التصويت لقائمة معينة يوقعهم في المعصية فساروا طائعين في مواكب مرشحين أجادوا توظيف شعائر الدين في السياسة، وحصدوا ثمار الانتخابات الاولى في العام 2005، وما زالوا، وان كان الشعب قد استفاد مما أصابه من خيبة أمل في هؤلاء فحجب بعض الثقة عنهم في الانتخابات اللاحقة. أما اقتراح الأخ بتبني نظام الملكية الدستورية، فلا أجده موفقا لأن ذلك كان يصح قبل ثورة تموز عام 1958، فقد شهد العراق أحزابا ذات وزن حقيقي وشخصيات سياسية معتبرة، ولو قدر للعهد الملكي ان يستمر، لكنا وصلنا ربما عبر تطور اجتماعي وسياسي، لما تشهده المغرب حالياً، وهذا لايعني إن فترة الحكم الملكي كانت خالية من الشرور، فقد عرفت البلاد انتفاضات ومعتقلات وإقطاع، وقانوناً للعشائر، وأحكام إعدام تعسفية، لكنها قليلة. وبالنسبة للحل على الطريقة التركية فهو ايضا بعيد عن واقعنا، فالعراق لم يشهد قيادة عسكرية علمانية قوية، استطاعت إنهاء نظام الخلافة العثمانية وأحكمت سيطرتها على البلاد، وتمثلت في كمال أتاتورك، كما إن الاحزاب الاسلامية في العراق - سنية وشيعية ndash; ليست كحزب أردوغان من حيث الثقافة والذكاء السياسي، والتواصل مع الناس والقدرة على التعبير عن متطلباتهم، وإذا تجاوزنا عن طبيعة إسلاميي تركيا من حيث التكوين السياسي والفكري، فان الامر الأهم هو واقع التوازن الدقيق بين المؤسسة العسكرية العلمانية وحكومة الحزب الاسلامي، فهل لدينا مثل هذا الجيش القوي ذو العقيدة العلمانية كي يلجم طموحات الإسلاميين الجدد الذين نثروا التراب فوق تراث منظرهم الزاهد الشهيد محمد باقر الصدر، واستبدلوه بمنظومات من الفساد والإفساد، وقد عبر عن ذلك بوضوح النائب جعفر الصدر (إبن المرجع المذكور أعلاه) حين قدم اسقالته من مجلس النواب، احتجاجا على الحكم، ويأسا من معالجة ملف الفساد، والى جانب كل ما تقدم فهناك الميليشيات المدعية للتدين، وأمراء الإرهاب المرتبطين بخلايا من البعث، وهذا ببساطة يعني إن إسلاميينا الحاكمين والمعارضين المسلحين منهم، متأخرين قرناُ كاملاً عن اخوتهم الأتراك.

ورداً على الأخ حميد، أقول له أنا لم اتناسى الدور التآمري لحزب البعث، وما عاثه من فساد وإرهاب بعد سقوط نظام صدام، وقد أشرت الى قائمة تحتضن بعض البعثيين من أرباب السوابق في الإساءة الى المواطنين، لكني لم اركز كثيرا عليهم، لكون حكامنا الحاليين قد استنسخوا غير قليل من السلوك التعسفي الذي مارسه ذلك النظام، وانت بنفسك قلت انهم لبسوا لبوس الاسلاميين وخطاباتهم زائفة، وأنا لذلك انتقدهم. وكوني لم أطرح خياراً من شأنه إسعاف ديمقراطية العراق المجتزأة، فلأني لا أجد حلاً لمأساتنا سوى تطور الوعي الشعبي، طالما إن أمر البلاد ليس في يد أهلها وإنما هو رهن بتوافقات المصالح بين الولايات المتحدة الاميركية وإيران، بالارتباط مع مصالح الدول الأخرى المحاصرة للعراق الضعيف.

أشكر الأخ أياد الجصاني الذي أهدى لي عنوان كتابه (إحتلال العراق ومشروع الإصلاح الديمقراطي الأميركي: حقائق وأوهام) وسأبحث عنه لقراءته، وأشكره ايضاً على المقدمة التي اقترحها حول الخلافة الراشدية وما مثلته بشكل عام من تطور في الوعي القبلي آنذاك، وإشارته الى ما شابها من تداعيات اتفاقيات السقيفة، التي لم تخف توجهات قبلية كان من شأنها ترجيح كفة المهاجرين على الأنصار، فضلاً عما تسببت به من الخلاف بين الصحابة، ذلك الخلاف الذي مازال أغلب المسلمين يعيشون في ظلاله وكأن الزمن قد توقف عنده. ولست اتفق مع الأخ الجصاني في استشهاده بمقولة عالم الاجتماع علي الوردي الذي اعتبر أن تجربة الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، مثلت حالة من الديمقراطية، فأنا أرى ان هذه التجربة تتصل بنظام البيعة، وهو مختلف عن قواعد الديمقراطية، فعقلاء القوم وشيوخ القبائل، هم المعول عليهم في أخذ البيعة، وهؤلاء يمارسون نفوذهم المعنوي على الموالين لهم ضمن قبائلهم أو من يتحالف معهم، وليس للفرد في القبيلة رأي في قرارات البيعة. وهذا امر مختلف عن مبايعة المسلمين الأوائل من يثرب، للرسول، فقد شارك في البيعة الاولى اثني عشر رجلاً، عشرة من قبيلة الخزرج، وإثنان من الأوس، وضمت البيعة الثانية ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين هما: نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، هذا حسب ما تتداوله روايات كثيرة، فالبيعة إذاً كانت شخصية في بداياتها، وهي بذلك تقترب من الإنتخاب.

وأقدم شكري ايضاً للدكتور عبد الجبار العبيدي لإضافته المهمة في الإشارة الى صحيفة المدينة التي كتبها الرسول في السنة الهجرية الاولى، وفصّل فيها كيفية التعامل بين المسلمين انفسهم، وبينهم وأصحاب الديانات الأخرى، وغير المؤمنين، والتي تضمنت الكثير من المبادئ التي من شأنها إحلال السلام والتكافل بين الناس. وأعتقد بصحة ما قاله بشأن الأمويين وانقضاضهم على الحكم، وتقويضهم لأسس العدالة التي جاء بها الإسلام الأول. أما الجمع بين البرامكة وطهماسب، فلا أجده عادلاً، لأن البرامكة - بصرف النظر عن بذخهم ونفوذهم ndash; في عاصمة الدولة العباسية، كانوا ضحية نزوات هارون الرشيد وطغيانه، وهو لم يكن ذلك الحاكم الورع، كما انه لم يوقف العسف والبطش ضد معارضيه، بينما السلطان طهماسب، الشاه الصفوي، كان من الملوك الذين استغلوا الدين لتثبيت عروشهم، حين كتب الى الفقيه المحقق علي الكركي في العام 939 هجرية، يدعوه للمشاركة في الحكم، وأطلق عليه لقب quot; نائب الإمام المهدي، وكان يهدف من ذلك حيازة مشروعية دينية في مواجهة المتمردين على حكمه، وبعمله ذاك فقد نشر أول بذور نظرية ولاية الفقيه التي يرتكز عليها الحكم في إيران حالياً، والتي لا تتمتع بالقبول لدى معظم فقهاء الشيعة (مصدر المعلومة التاريخية: مقال شفيق شقير المعنون: نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الايراني). وبعد فان حديث الاخ العبيدي عن فترة بريمر ومآسيها واصحاب الحظوظ فيها ممن سرقوا المال العام، يثير شجونا لاسبيل لنسيانها الا بتغيير ما ابتلينا به من ساسة لا يعقلون ولا يتذكرون عهد صدام وما آل اليه عرشه من خراب.

بالنسبة للأخرزكار فانا لا اجد التقسيم حلاً صائبا، لإقامة الإستقرار القومي والديني والمذهبي في العراق، واذا كان المثال السويسري في ذهنه، حيث كان هناك نظام كونفيدرالي، يؤمن الاستقلالية لسكانها الناطقين بالالمانية والفرنسية والايطالية، فليرجع الى حقيقة الفروق الهائلة بين الاوروبيين وبيننا، في الاخلاق والانضباط لشعوبهم، والتزام حكوماتهم باحترام حقوق المواطنين. إن التقسيم حاصل بين العرب والكرد بحكم الفيدرالية، وقد اكتسب مشروعية واقعية، بحكم استقلال كردستان عن السلطة المركزية منذ التسعينيات، وثبتت الفيدرالية بالدستور وان كانت صيغها غير مكتملة وقاصرة في نواح معينة. اما ماعداه من تقسيمات مقترحة، فلن ينتج لنا استقراراً بل مزيدا من الميليشيات والفساد.

أشير أخيراً الى من علّق على مقالي، ناصحا إياي بالتفرغ لشؤون البيت والتوقف عن الكتابة، لأنها - كما يعتقد - ليست من شؤون النساء، وأرى إن تعليقه ربما يرجع الى مقولات يتيمة في تراثنا القديم المتزاحم بالكثير مما ما هو غريب وباطل، بخاصة فيما يتعلق بالنساء، من قبيل: quot; لا تسكنوا النساء في الغرف العالية ولا تعلموهن الكتابة quot;، أقول له إنك معذور لما ورثته من تربية خاطئة تميز الرجال، وتحط من قدر النساء، وانت أسير ثقافة مريضة بداء الخوف من نهضة المرأة. وأنا اتفق مع تعليقquot; دوديquot; الذي نصحك بان تحتفظ بتوجيهاتك لتستفيد منها عائلتك. أما قولك بان النساء كلّهن يكرهن الرجال، لذلك لا ينبغي الإصغاء لهن، فهذا قول مضحك، واسأل المعلق أن ينصح كل النساء المتزوجات بالتقدم الى المحاكم لفسخ عقود زواجهن لما يشوبها من الكراهية أو الإكراه. ثم إن هذا الأخ المعترض لم يقرأ مقالي جيدا، فأنا كنت من بين جمهرة كبيرة من الناس ممن عوّلوا على توجهات رئيس الوزراء المالكي، في صراعه مع الخارجين على القانون (الميليشيات) في البصرة، لأنه كان صادقا، او طامحا لتأسيس نوع من الشعبية في ولايته الاولى، لكن السلطة في الولاية الثانية غيرته لتحوله الى مجرد حاكم يتبع أسلافاً كثيرين في انماط من الفساد والعسف. ومقابل نصيحة صاحب التعليق، انصحه بدوري أن لا يحشر أئمة أهل البيت مع معظم حكام العراق، لأنهم يلهجون باسمهم وببركاتهم، ويعملون بالضد من مبادئهم واسلوب حياتهم المتواضع، وبذلك فان قول الإمام علي ينطبق عليهم، ومعناه أن لعنة الله على الآمر بالمعروف التارك له، والناهي عن المنكر الذي يأتي به.