من يتابع مجريات الصراع السياسي في العراق، يلحظ كم كان الحديث عن الديمقراطية سابق لأوانه وبعيد عن طبيعة الكتل المتصارعة، وعياً وسلوكاً، ويدرك الى اي حد كانت مشاعر التفاؤل بعراق جديد تنتمي الى عالم النوايا الحسنة الغائبة عن المشهد السياسي، برلماناً وحكومة ورئاسة.
وكلما استعدت تجربة الإنتخابات، اتذكر ملحوظة ساقتها طالبة كانت تدرس القانون في لندن وعينها على العراق، شاركت في أول اقتراع، بهرتها فرحة الناس، لكنها توقفت عند قول احدهم بان بلادنا اصبحت ديمقراطية حقاً، قالت لا ان الإنتخابات ليست الا خطوة اولى في مسار الديمقراطية الطويل، وان العراق ابعد ما يكون عن الديمقراطية الحقيقية.
لقد أصابت تلك الشابة فيما أخطأ فيه كثيرون، فالسياسيون عندنا يتصرفون كما لو كانوا في المرحلة ما قبل الابتدائية في مدرسة الحوار، وتداول السلطة في معرفتهم هو التوافق على توزيع المناصب والغنائم ونفي كل نتائج الانتخابات حتى لو كانت خالية من التزوير.
ويلاحظ على ديمقراطية الحكام في العراق، الخاصة جداً، إنها تنطوي على ثنائيات متقاربة أو متماهية احيانا، فالحكومة والبرلمان توافقيان، رئيس جمهورية كل العراق ورئيس إقليم كردستان يتشاركان في نظرتهما البعيدة لعائدية مدينة كركوك الغنية بالبترول.
ـ إرهاب وتطرف على كلا الضفتين الشيعية والسنية - بنسب متفاوتة ndash; لكن كلاهما يسعى لغاية واحدة هي ربط العراق بمرجعيات اقليمية، وغير ذلك كثير.
في المقابل تستوقفنا ثنائيات متضّادة حتى العظم، واليكم بعضاً منها :
ـ شعب يمتلك النفط في الدستور ويجوع، وممثلوه في مجلس النواب، والحكومة والرئاسة متعبون من تراكم الملايين في جيوبهم.
ـ تخمة في الكهرباء والماء والأمن في المنطقة الخضراء، وشحة من كلها في العراق بعامة، رائحة الحرائق والنفايات في الشوارع، ونعيم مكيفات الهواء والأشجار والزهور في قصور أركان السلطة.
ـ رجال دين أثرياء، ومؤمنون يفترشون الأرض في صلاتهم ومعاشهم، وليس لهم غير الدعاء لله وشفاعة أهل البيت.
ـ مستقبل مضمون لمسؤولي السلطة ومحازبيهم واقربائهم، وبطالة وضياع لمعظم القادرين على العمل أوعقود مؤقتة لقلّة منهم.
ـ نساء مترفات في البرلمان ودوائر الحكومة العليا، لا تشكو المحجبات منهن من التصاق جلابيبهن وخمرهن فوق أجسادهن كنظيراتهن في الشوارع والمكاتب العامة المتواضعة، وملايين من العراقيات الكادحات يحملن اسطوانات الغاز فوق رؤوسهن ومئات ألتار مياه الشرب، حتى تنطوي ظهورهن.
ـ معاملات تنقضي بدقائق او بهاتف بواسطة حزب اومسؤول، وأنفاس لاهثة تطلقها أرامل لتحصيل راتب تقاعدي زهيد، تستغرق إجراءاته شهورا طوال، وكذلك حال الرجال المستحقين للتقاعد.
ـ رواتب لا تكفي حاجات الناس ومتطلبات الغلاء وجشع التجار، وأناس يتقاضون راتبين أو أكثر باسم الشهداء والسجناء.
ـ شهداء ضحوا بارواحهم من أجل الوطن والكرامة، وتجار يصادرون تاريخهم ويحصدون المكاسب.
ـ مراقد أئمة أطهار عاشوا زاهدين متصدقين، ومراجع وآيات الله وحجج يرفلون بنعيم المال ولايملّون من تراكم ثرواتهم.
ـ فقراء يأكلهم الجهل والمرض، يرمون الدنانير في أضرحة الأولياء، وفاءً لنذورهم، واستغاثة من بؤسهم، ومرجعيات دينية تجمعها ولا تنفقها في سبيل الله .
ـ هيأتا وقف تتضخم أموالهما بدون حسيب او رقيب، وجلّهما من عطايا الحكومة، ومؤمنون من شتى المذاهب ما عليهم سوى التعفف وخدمة المذهب ورجال الدين.
ـ جامعات كثيرة، عامة وخاصة، وطلاب يتكاثرون، لكنها تضع تطور العلوم في خانة النسيان، ولا تأبه لطاعون الشهادات المزوّرة.
ـ حديث دائم عن الحرية والديمقراطية، واغتيال متواصل لحرية الرأي، إن بالإعتقال أو بكواتم الصوت.
ـ رئيس الوزراء يتصدر قائمة تحمل اسم دولة القانون، وبرلمان يضم إرهابيين من مكونين رئيسين.
ـ رئيس قائمة دولة القانون، يتصدى للخارجين عنه في ولايته الأولى فيحصد تأييد الناس وثنائهم، وفي ولايته الثانية يصافحهم، ويسعى اليهم في منافيهم ليطلب الصفح منهم ومن أسيادهم في الجارة الشرقية، بينما كان بامكانه الأبقاء على رصيده الشعبي والإكتفاء بشرف المعارضة القوية في البرلمان.
ـ قائمة اسمها العراقية، تدّعي العلمانية او الليبرالية - على ضبابية المصطلحات في العراق ndash; لكنها تجمع الوانا شتى، بعضها ضارب بجذوره في أرضية الطائفية، وبعضها موصول الخيوط ببعثيين إرهابيين، وحاشا من هذا الوصف ملايين من الوطنيين العراقيين الذين اجبروا على مبايعة حزب البعث بقيادة صدام، الذي كان يقول بأن العراقيين كلهم بعثيون.
ـ صراع بين القائمتين المذكورتين خارج اية لغة تتعلق بالديمقراطية، تستعمل فيه كل الوسائل، بما فيها المفخخات وكواتم الصوت (يعلم الله من البادئ فيها)، الى جانب كلام عن الدستور والحقوق المكفولة فيه للقوائم الفائزة في الانتخابات.
ـ وزارة متضخمة بعدد وزرائها، وخدمات مختصرة او غائبة.
ـ رئيس لكل العراق حيناً، ولإقليم كردستان فقط حين تقتضي مصلحته القومية ومصلحة أشقائه في قيادة الإقليم.
ـ ومن الثنائيات المتضّادة المتعلقة بالسياسة الخارجية للعراق، يمكن الإشارة على سبيل المثال الى : تهذيب الخطاب مع ايران ، وتشديده مع الكويت، فلا حديث الا ما ندر عن تحويل ايران لأنهار في ارضها تصب في العراق، ما يفضي الى حرمان البلاد من حقها في المياه المكفول في الاتفاقيات الدولية، بينما يتعالى الإحتجاج ضد الكويت بشأن ميناء مبارك، وليس في هذا تبرئة للجانب الكويتي، فهناك من البرلمانيين السلفيين لديها، ممن يحرضون ضد العراق بدوافع طائفية، والقصد ان ميناء مبارك قضية قابلة للتفاهم، بينما نفوذ ايران المستشري في العراق أمر في غاية التعقيد ولا ينبغي السكوت عنه.
ـ هناك ايضا أحاديث عن حسن الجوار والمصالح المشتركة مع الكويت، وتشبث لدى بعض السياسيين بعقلية صدام الاستقوائية ضد دول الجوار.
ـ ونحو ذلك ايضا، تعاطف اعلامي عادي مع الحركات الاحتجاجية في مصر وتونس واليمن، ومبالغات في تأييد لاحتجاجات البحرينية وإلباسها رداءً طائفيا ليس من مصلحتها، فضلا عن التوجه بمفردات عالية النبرة ضد الحكومة البحرينية، هذا مع تقدير عدالة المطالب الشعبية البحرينية، وواقع القمع التي ووجهت به، بصرف النظر عن محاولات ايران استغلالها، لاننا لابد ان نفصل بين دسائس النظام الايراني، وبين مشروعية الحقوق السياسية لشيعة بلدان الخليج بشكل عام.
ـ وأخيرا استعيد من مواقف الرئيس، تمسكه بعلاقته مع الاشتراكية الدولية، وإهماله لعدالة مطالب الشعب من الكرد والعرب في الاقتصاص من صدام (ظهر هذا جليا في رفضه التوقيع على قرار اعدامه) هذا على سبيل المثال وليس الحصر.
نتعب فعلاً حين نعدد مظاهر التناقض والتخبط في مجرى السياسة العراقية، خارجية كانت ام داخلية، لكن هذه الحالة كما يقول البعض هي إحدى نتائج quot;الديمقراطيةquot;، فهل هذا النظام الجديد علينا أصبح لعنة؟ وكيف السبيل الى الخلاص منها، هل ينفع دعاء المؤمنين الصادقين وليس المتسيسين، هل نطالب بالغاء العملية السياسية واللجوء الى حكومة طوارئ، وهل هذا قابل للتطبيق في ظل تغول الاحزاب وميزانياتها الهائلة ونفوذ ايران المتزايد والداعم لبعضها. قد يكون في الغائها مصلحة العراق لفساد الطبقة السياسية بشكل عام، وانغماسها في العمليات المشبوهة لسرقة مليارات من المال العام، لكن الوسائل الى ذلك غير متاحة، بخاصة وان الراعية الاميركية تقترب من الرحيل، وستحكم الاحزاب الكبيرة قبضتها على العراق اكثر فاكثر. وهل يكون الحل بالانقلاب؟ البعض يقول ان هذا مستحيل لأن القيادة الاميركية مازال بيدها القدرة على تحريك القوات العراقية. باعتقادي ان الاهم هو تطور حركة الاحتجاج التي مازالت في مهدها، وزيادة وعي الشباب، لكي تخرج منهم نخبة سياسية تتصدر الصراع ضد الحكام الفاسدين، وتجبرهم على رأب تصدعاتهم وإعادة بعض ما استحوذوا عليه من المال العام، او في الاقل تصحيح مسالكم والتوقف عن النهب. وبعد فان الديمقراطية التي حملها الينا مبكرا، الغباء الاميركي أوالجهل بطبيعة المجتمعات التي خضعت عقودا للحكم الاستبدادي، تحتاج الى مؤسسات تحميها وهي ما لا تتوفر العراق، في الشكل هي قائمة لكن الموضوع غائب في عقلية الحكومة والبرلمان والرئاسة، فالكل ما زال يعيش في أفق المعارضة السابقة ومؤتمرها الذي عقد في لندن قبيل الغزو الاميركي، برعاية السفير الاميركي خليل زاد، وساد خلاله الصراع على المكاسب والحصص، ولم يتوافقوا على القسمة الا بعد منتصف الليل بساعات. ومازالوا يقتسمون البلاد ويتفرجون على مأساة شعبهم. جزء مهم من الحل يكمن في ترشيد الوعي الديني، وإبعاد الدين عن هيمنة quot;السلطة الكنسيةquot; المستحدثة في ديار المسلمين (معظم رجال الدين). ولا نغفل هنا تضخم تاثير العشائر ودور رؤسائها تاريخيا في التطاول على القانون، وبالطبع فان الحد منه يقتضي تزايد قوة الدولة بوصفها الحاضنة لكل بنات العراق وابنائه، وليس لعشائر او قبائل معينة، والأمل معقود على تطور الوعي الاجتماعي، وهذا يتطلب سنوات من الانتظار، آمل ان لا تطول.