قد يبدو هذا العنوان غريباً لما يفترض بمنظومة حقوق الإنسان العالمية من اشتمالها على قيم العدالة، لكن تطور النظم السياسية في الديمقراطيات الغربية واتجاهها نحو وتوسيع دائرة الحقوق المدنية للأفراد وترسيخها، واعتماد نظرة منفصلة بين الحق كموضوع، ومن يتمتع به من اشخاص يتفاوتون في درجة احترامهم للحقوق الانسانية، وبالتالي في كيفية تعاملهم معها. هذا التطور تسبب في إهدار جزأي لهدف تحقيق العدالة، الذي سعى رواد فكر حقوق الإنسان الأوائل للوصول اليه.
أشرح ذلك بمجموعة من الأمثلة التي لا تتحمل خلافات كبيرة تؤثر على مقدرتنا كأفراد، في الحكم على الأشياء، أمثلة من السلوك الخاص المفضي الى مسؤولية جنائية، وأخرى تتعلق بنهج الحكام في التعامل مع شعوبهم، وما ينتج عنه من انتهاكات جسيمة ومصادرة لحق الحياة أو العيش الآمن. ولأبدأ بمرتكب الجريمة المروعة التي حدثت في النرويج الشهر الماضي (تموز- يوليو)، آنديرس برينج بريفيك، شاب في الثانية والثلاثيين من العمر، عضو في حزب عنصري، اشتغل بالتخطيط لجريمته قرابة عام، يقول عنه محاميه انه كان نشطا سياسيا، ووجد انه لم ينجح بالوسائل السياسية في الوصول الى اهدافه فلجأ الى العنف. يقتل آنديرس أكثر من تسعين شخصا من الأحداث في جزيرة أوتويا، ثم يفجر دائرة حكومية، يعترف بجرائمه ويقول عنها انها (وحشية لكنها ضرورية). وكان قد كتب في مدونته بان ما سيقوم به إما ان يحقق نجاحا كاملا او يفضي الى فشل تام، وانه سيذهب الى حفل تنكري بزي شرطي. لا شبهة في المسؤوليته الجنائية لهذا القاتل حيث ظبط متلبسا بالقتل ومصّرا على مواصلته وبيده سلاحه، لا مشكلة بتوفر الشهود، ولا تقتضي ادانته بحثا أو تحرياً للحقيقة. عند محاكمته يطالب بمنحه فرصة للحديث عن افكاره وكراهيته للمهاجرين، كما لو ان هذه الافكار تستدعي وقفة خاصة لاكتشافها، او انها غير معروفة. ان كثيرا من النرويجيين يعارضون في ان تكون حرية التعبير منفذا لنشر الكراهية، وان جدلا حاصلاً في بلادهم ضد منح هذا المجرم مجالاً عاما للحديث عن دوافعه المثيرة للفزع.
بماذا يمكن أن يحكم مثل هذا المجرم في بلد لا يقر عقوبة الاعدام، السجن لواحد وعشرين عاماً حسب قانون النرويج، او ربما مدى الحياة، مقابل ذلك يتمتع بحقوق كثيرة، بما فيها التصويت والتواصل مع العالم الخارجي عبر الأنترنيت، الذي يتيح له التخطيط لجرائم أكثر بشاعة. وقد يعفى من العقاب إذا استطاع محاميه وفق الاساليب الملتوية والثغرات القانونية، إقناع القضاة بأن موكله مجنون مثلاً.
قضية أخرى لأم بريطانية فجعت بقتل ابنتها ذات السبع سنوات بعد اغتصابها، والجاني هو خال الصغيرة. بعد صدور الحكم عليه وسنوات قضاها في السجن، قاد حملة للمطالبة بحقه في التصويت ورفع دعوى الى المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في ستراسبورغ، وهذه بدورها قضت لصالحه، مستندة الى ان القوانين في معظم دول اوروبا تعتبر إن التصويت حقاً أصيلاً لا يتأثر بالأفعال المخلة بالقانون، وتمارس المحكمة الاوروبية ضغوطاً مشددة على الحكومة البريطانية كي ترضخ لقرارها هذا، لكون بريطانيا الى جانب لوكسمبرغ هما الدولتان الوحيدتان في الاتحاد الاوروبي (باستثناء بعض دول اوروبا الشرقية)، اللتان مازالتا تمنعان المجرمين من المشاركة في الانتخابات. وكانت والدة الضحية قد انتقدت النظام القانوني بقولها ان ميزان العدالة يميل باتجاه القتلة، وان السجناء يتمتعون بحقوق كثيرة، بينما لا يحصل الضحايا الا على القليل. وباعتقادي إن التصويت ليس حقا قائما على تحقق شرط المواطنة بشكل مطلق، ومن يخرق سلطة القانون لا يستحق ان يكون له رأي في نظام الحكم ولا في تشريع القوانين، كما إن حجب حق التصويت مع حقوق أخرى هو جزء من العقوبة، فضلاً عن كونه إحدى الوسائل التي تتيح للمجتمع التعبير بأن ارتكاب الجرائم الخطيرة يفضي الى انتقاص حقوق أساسية. وفي لندن اكتشفت عشرات الجرائم مرتكبها واحد، يقتل ضحاياه ويقطعهم ثم يرميهم في المجاري.
مثال رابع من المانيا عن آكلة لحوم البشر، حيث حكم على رجل بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاما لاغتصابه وقتله مراهقين ثم تناوله للحمهما. كل هؤلاء المجرمين ينعمون في سجونهم باغلب ما يتمتع به الأبرياء من الناس من حقوق، يأكلون ويشربون على حساب شقاء دافعي الضرائب في بلدانهم، وبعضهم ينتظرون انتهاء محكومياتهم لممارسة الجريمة مجدداً. إن قضاء حقوق الانسان يتفنن في استحداث ميزات للمجرمين، ويتجاهل الجانب الموضوعي في جرائمهم، يركز على انسانية القاتل او المعتدي او المدعي بحق لا يملكه بصورة صحيحة، بينما يقلل من أهمية تحقيق العدالة وإشعار الضحية أو عائلتها بالرضا من حكم القانون، وذلك يفضي بالتأكيد الى تكرار التجرؤ على خرق القانون، والتعزيز المفرط للنزعات الفردية الفوقية والعنصرية ومفاهيم القوة الغاشمة.
ماتقدم كان على مستوى المجرمين العاديين، فماذا عن الإستثنائيين من أقرانهم بل أساتذتهم من ديكتاتوريي العصر بعد انقضاء النصف الأول من القرن العشرين، وبدء تداول المفاهيم المسطرة في ميثاق حقوق الإنسان وما لحقه من اتفاقات دولية ولوائح؟
واذا اقتصرت على بعض التجارب العربية وجانب من الجوار الاسلامي، فأمامي تاريخ ناطق من أنهار الدماء في العراق وسوريا وليبيا واليمن وايران على سبيل المثال، مجرمون عتاة مثل صدام حسين، الاخوان الأسد ورجال مخابراتهما، القذافي وابنائه وصحبه، علي عبد الله صالح، الخميني وصادق خلخالي (رئيس المحاكم الثورية) وأخلافهما. وغير هؤلاء هناك مفسدون ومجرمون من الدرجة الثانية أمثال حسني مبارك وزين العابدين بن علي.. الخ.
واذا كان صدام محظوظاً بان الفضائيات لم تكن تستطع نقل جرائمه الكبرى للعالم، فقد تطوع بتصوير القليل منها وتسريب أفلام بغرض إرهاب اتباعه والناس بعامة، ففي العام 1979 شاهدنا فلما وثائقيا عن اجتماع لكوادر حزب البعث، وسمعنا صوت صدام وهو يصدر احكام الاعدام بحق رفاقه البعثيين، لينفذ الحكم في ساعة الاجتماع. بالإضافة الى تصوير افراد من فدائيي صدام وهم يقطعون السن بعض الشباب ممن يتهمون بالحديث سلباً عن الرئيس او عائلته.
وفي سوريا وبعد ثورة الشعب والانعتاق من صمته، تتواصل حملات الإبادة، وتعود للذاكرة أحداث حماة في الثمانينيات، وما يجري اليوم من قتل وتعذيب في مدن شتى واضح للجميع. وكذلك فان سحق انتفاضة اليمن الجنوبي وفرض الوحدة عليه بحرب شعواء في العام 1994 ومسؤولية علي عبد الله صالح الكاملة عن نزيف الضحايا في معظم مدن اليمن الثائرة، كل ذلك حاظر في أذهان الناس.
اما فظائع القذافي فقد تكفل هو بتوثيقها في خطبه ودعواته للقتل، وما اختزنه تاريخ حكمه من تصفيات لخصومه وإبادات للسجناء، وهدم لأسس الدولة وإرجاعها الى عصر البداوة.
حكام وأعوانهم، سائرون في طريق الهمجية، جرائمهم موثقة ولا يحار القضاء في أمر إدانتهم، ولكن عندما يمثلون أمام محاكم شعوبهم، سنسمع صيحات المدافعين عن حقوق الانسان، لتوفير الحدود القصوى من الضمانات لصيانة حياتهم وتهيئة أفضل الظروف لراحتهم، وسيكون شعارهم (توفير المعايير الدولية في المحاكمة) مع ان هذه المعايير لم تراع في سنوات حكمهم، وان الدول التي وضعتها كانت تقيم علاقات متميزة مع مضطهدي شعوبهم. نتذكر كل ذلك في محاكمة صدام والاصوات المتشنجة التي دافعت عنه من العرب والغربيين. وسنسمع مثل تلك الاصوات ولكن ربما بنبرة أقل، إذا ما قدر للقذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد أن يحاكموا.
إن محاكمة الطغاة لن تجلب للشعوب سوى الصدمة، لفرط ما سيوفر لهم من حماية واهتمام بصحتهم الجسمية والنفسية، وقد شاهدنا حسني مبارك وهو في غاية الإرتياح، يسمع تأكيدات القاضي على وجود لجنة طبية تسهر على سلامته، بينما تبقى عوائل ضحاياه من شهداء الثورة أسيرة الحزن وانتظار العدالة البطيئة والمجتزأة.
إن إقرار مبادئ حقوق الإنسان انجاز ينبغي الإعتزاز به، لكن المغالاة في توسيع دائرة شمولها لتستوعب حتى من يتجردون من الرحمة ويوغلون في دماء البشر، أمر غير مفهوم ولا مقبول من الوجهة الانسانية المجردة، وما لم يقف الفقه القانوني الأوروبي بشكل خاص، وقفة مسؤولة أمام ما يحصل من تطورات مريعة في عالم الجريمة العادية، وجرائم الإرهاب التي ترتكبها الحكومات والجماعات والافراد، ويقيم حدا فاصلاً بين حقوق الأبرياء من الناس، وحقوق المجرمين، فإن العدالة لن تتحقق، بل سيتحتم على من يدرسون القانون أن يتقبلوا مادة جديدة في منهاجهم، بعنوان: كيف ندافع عن حقوق الانسان المجرم!!
وانسجاما مع التسامح المفرط مع المجرمين، فقد وصل عدد القضايا المرفوعة أمام المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان، من قبل سجناء بريطانيين، الى 3.500 قضية في نهاية العام 2010، وهؤلاء يطالبون بمنحهم حق التصويت، ما حدا برئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، الى القول أمام مجلس العموم، بأنه يشعر بالمرض لمجرد التفكير بمنح السجناء هذا الحق.
وفي رأيي فان من يباشر فعل القتل العمد، غير مدافع عن نفسه أو منقذاً لغيره، فانه يفقد الحق في الحياة، والذي يشفع له لتجنب الإعدام، هو عفو الأقرب من عائلة المجني عليه. والتسامح ليس قيمة مطلقة، وهي ترتبط بقدرة الإنسان على تجاوز الألم، ولا يمكن ان يفرضه القانون، ومن هنا ندرك مأزق ما يسمى بقاعدة تقادم بعض الجرائم بعد مرور زمن على إفلات الجناة من العقاب. وأجد من حقي أن أتساءل، هل إن حق الإنسان في الحياة مطلق، حتى لو أزهق أرواح الآخرين، أم إنه مقيد باحترامه لحق غيره في الحياة؟ سؤال مطروح على فقهاء القانون، وكل من يتعاطفون مع القتلة ويعارضون عقوبة الإعدام باعتبارها منافية لمبادئ حقوق الإنسان، بينما لا يجدون ما يدافعون به عن رفضهم غير فكرة المغفرة. وأنا لا أشك بسمو المقدرة على العفو، لكنها نادرة في البشر ولا تؤدي الى تحقيق العدالة ودفع الشر عن المجتمع، سوى انها تسجل مأثرة فردية لصاحبها، بينما تغري الأشرار باقتراف مزيد من الآثام.