لم يحصل ان انشغل الفكر الديني بقضية اكثر من انشغال فقهاء المسلمين بالمرأة، فقد تتبعوها بكل تفاصيلها منذ الولادة وحتى أواخر عمرها، وبلغ الأمر بمعظمهم الى الحكم بجواز الاستمتاع بالصغيرة حتى لو كانت رضيعة، واعتبروا بلوغها سن التاسعة أو الثامنة مناسبا لاتخاذها زوجة، فقط ان بعضهم اشترط لإباحة الاستمتاع ان تكون الطفلة من الإماء وليس الحرائر.
ولضمان استمرارية الاستحواذ على النساء ومنعهن من ممارسة حياتهن بشكل طبيعي، تشدد أغلب فقهاء السلف والخلف في تفسير النصوص القرآنية المتعلقة بزيهنّ، وعكفوا على تسويد آلاف الصفحات وإصدار المجلدات في باب كيفية ستر المرأة، وقال البعض بوجوب تغطيتها بالكامل، ونظر بازدراء لمن تكشف عن وجهها وأفتى بأن صوتها عورة.
وقد يكون من قبيل الجهل بتعاليم الدين المفترى عليه، ان نجد في مجتمعاتنا منقبّات، لكن ما يثير الاستغراب ان تتنقب نساء متعلمات ومقيمات في دول الغرب ومجتمعاته التي تعترف للنساء بحقوق قصوى.
ما الذي يجعلهن يقبلن إلغاء هويتهنّ الأنثوية؟
أهي العادة والتربية، أم هي خشية الله وتحاشي عذاب القبر كما علمهنّ الافاّقون من تجار الشرائع، أم ترى هو الإعجاب بالجمال الى حد إسدال الستار عليه، أو ربما الرغبة في التواري وراء مظهر غير حسن أو ضجر من فضول الناس؟ وهنا لا أغفل جور الزمان على بعض النسوة وما يعشنه من مآسٍ تجعل الحياة في نظرهن بلا رونق، أو على العكس فقد يكون الحب والرغبة في مجاراة
الحبيب المتعصب،احتمالات كثيرة وراء الوقوع بهذا الداء من التخّفي.
وأعجب ماسمعته هو عن تلك المرأة العربية التي تحدّت القانون الفرنسي بحظر النقاب في الأماكن العامة، وأعلنت بأنها ستترشح لمنصب رئاسة الجمهورية الفرنسية، انطلاقاّ من مدينة ميو التي يقع فيها مقر الأمين العام لحزب الإتحاد من أجل حركة شعبية، جان فرانسوا كوبيه، الذي سبق أن قدم مشروع القانون المذكور الى الجمعية الوطنية. وتشير الإحصاءات الرسمية، بإن عدد المنقبّات في فرنسا بلغ الألفين، بمعنى إن قانون حظر النقاب قد تأخر كثيراً، ذلك لأن عوائل الشابات المتنقبّات كان يمكن أن تنظر بتعقل أكثر لمثل هذا القانون، قبل ثلاثين عاماً أو عشرين، فلا تفكر بتنشئة بناتها وفق ذهنية متشددة، وفي الوقت نفسه لاتتوالد قناعات لدى المتنقبّات بانهن يمارسن حرية شخصية ويتمتعن بحقوق مكتسبة من جرّاء الإعتياد وتغاضي السلطات عن مظاهر تخفّيهنّ. وبدل أن تجري أموال المسلمين في سداد الحاجات للفقراء واليتامى، يتبرع أحد الموسرين بدفع الغرامات للدولة الفرنسية، نيابة عن المنقبّات اللواتي يخالفن القانون.
ثانية العجائب عن سيدة في مجلس محافظة واسط في العراق، كانت قد طالبت بأن يحظر معها زوجها أو أحد محارمها، لينوب عنها في الكلام لأن صوتها عورة، بعد أن غطّت وجهها سيّد الفتنة، ومصدر الوجع لمنظّري السلفّية على اختلاف مذاهبهم، سنّة وشيعة، وهذا ليس قولاً غريباً فهناك سلفيون شيعة ولكن ليس في إيران، لأن صوت المرأة هناك عاليا، ووجهها مكشوفاً، لتصرخ في وجه النظام في المظاهرات، أو لتهتف لقادته، حسب مدارات عقلها أو ظروفها. سلفيات شيعيات يرتدين القفازات السوداء ويسدلن على قاماتهن ستراً مضاعفاً ويجلسن في البرلمان العراقي، أو يتنقبن ويتحنكن في مجالس المحافظات وغيرها من مؤسسات الدولة. وما زلت أتذكر بوستراً كبيراً على سعة جدار عريض كتب عليه انتخبوا الحاجة أم محمد زوجة فلان. كل هذا بعد quot;التحرير والديمقراطيةquot;.
العجيبة الثالثة في الإعلانات الإنتخابية لسلفيي مصر، مرشحات لا صور لهن، سوى، أسماء أزواجهن، وورود حمراء تعوض عن غيابهنّ. هذا بعد الثورة التي سقط شهداؤها وهم ينشدون أغاني الحرية، ولم يكن بينهم سلفي واحد. هم يقبلون على موسم الحصاد وما كانوا زارعين، بل ناظرين الى ساعة تحترق فيها البيادر فيبدأوا ببيع بضاعتهم.
قال لي أحد الأصدقاء العراقيين مازحاً: quot; ها نحن جئنا لننافسكنّ حتى بدعاوى حقوق المرأة، فلم تعد حكراً عليكن، أكثر من سبعين امرأة في البرلمان، معظمهن محجبات، خرجتن للتظاهر دفاعاً عن قانون الأحوال الشخصية، فأسمعتكنّ نساء حكيمات من قلب البرلمان بأنهن مع تعدد الزوجات، وقضاء المذاهب، نحن لكنّ بالمرصادquot;.
قلت له هنيئا لأخواتك أن يتنكبنّ مناصباً في غفلة من زمان غائم، الروح فيه مقصّية عن رحابها، زمن تهرب فيه الحقيقة ويلبس الباطل أجمل الحلل، يتطلّع فيه العقل الى أن يكون له جناحان فلا يشقى، وأن يبقى له جسد فحسب يحتال عليه بالأكل والشرب وانتظار ساعات الإنارة في ليل غارق في السواد.

غطاء لكل الوجه أو نقاب أو ماهو أقلّ من ذلك، وسائل تجتاح هامات النساء وتلقي ستاراً على شعرهن، وهو عندي تاجهّن وعنوان حسن التقويم الذي أراده الله لهنّ، فلم يقل بغطائه، بل ناشدهنّ فقط بأن يسترن صدورهن، كي يعرفن بأنهن مسلمات، ويتميزن عن الجواري اللواتي كنّ نهباً لكل متحرش دنيئ، وكذلك أن يدنين عليهن من جلابيبهن (ثيابهن) أي يغطين بدنهنّ، حين يذهبن لقضاء حاجاتهنّ في الخلاء. فكيف آلت الأمور مع الفقهاء الى درجة الإزراء بالنساء حتى لم يعد من حقهن أن يظهرن صورتهنّ الإنسانية؟ وإن كان الأصل في تشديد الحجاب غيرة الرجال وخوفهم من بروز النساء وتميزهنّ- لما للمرأة من طاقات كبيرة، فجمال الصورة حين يقترن بالذكاء يصبح قوة لا يستهان بها- فكيف ترضى بعض النساء بالتواري أوأن لا يسمعن الناس أصواتهنّ؟ أذكر امرأة جميلة كانت مبهورة بكلمات خطيبها وهو يعبر لها عن افتتانه بجمالها، تباهت أمام صاحباتها بأنه قال لها quot;أنت أكثر فتنة من كل نساء الأرض ولا يجوز أن تبدين محاسنك للناس، وما عليك الا أن تغطي وجهك، فترضي الله وترضينيquot;، فهل قال الله مثل هذا؟
إنه لمما يفطر القلب أن نرى صغيرات في عمر رياض الأطفال مغلّفات من الرأس الى القدم، لايعشن طفولتهن ويعاملن كنساء بالغات، ولا أبالغ في إن بعض العوائل تحجب بناتها حتى قبل أن يبلغن ثلاث سنوات، وقد رأيت أمثلة كثيرة على ما أقول في دول أوروبية.
كثيرة هي الفتاوى بشأن تغطية النساء، وقليلة تلك الآراء النيّرة التي تستوعب الإسلام وتحسن قراءة جوانبه المختلفة، وتفصل بين العبادة وتأريخية الأحكام، قليلة لأنها محاصرة بهتافات التديّن الزائف، منابر وفضائيات، لو جمعت أموالها لأطعمت مئات الألوف من جياع المسلمين.
أصل في الخاتمة الى رابعة العجائب، وهي إن المدافعات عن عادة النقاب، يحاججنّ خصومهن بأنهنّ يمارسن حريتهنّ الشخصية، ويقلن بإن النظام الديمقراطي يكفل لهنّ ذلك، والسؤال أي حرية في أن تنظر المرأة للعالم من وراء ستار، وكيف يكون من حقها أن ترى الناس وتتفحص وجوههم، ولا يعرفون من هي، كيف نضمن حرية المجتمع وأمنه في مقابل مجموعات من النساء يخفينّ هوياتهن، وربما تخفّى رجال مجرمون وراء النقاب؟ كيف لنا أن نعرف إن المنقبّة تلتزم بتعاليم الإسلام بأن تغض الطرف، ونحن بالكاد نميز عينيها؟
كيف تتزوج المنقبّات ولم يسبق لخاطبيهنّ أن رأوا وجوههنّ، أم ترى سيجيبنا فقهاء النقاب بأحاديث تقول بجواز اختلاس الخطيب للنظر الى خطيبته في غفلة منها، وبأي حال كانت، هل من حقها أن ترى خاطبها ولا يراها، وكيف يستوفي عقد الزواج جانب الرضا دون نظر ومعرفة متقابلة؟
اسئلة كثيرة غير هذه، لا ينفع معها شعار المنقبّات باحترام حريتهنّ الشخصية، فهنّ ببساطة لا يؤمنّ بحرية الأخريات في مجتمعاتهنّ الأصلية، بأن يتخذنّ أزياءهنّ حسب قناعاتهنّ، بل ويصفنهنّ بالفجور ويدعونهنّ الى أن يهتدينّ!!