أروع ما كان في مشهد نهاية القذّافي إنه وقع في يد الثوار، لا بأيد أوروبية أو أميركية، وإلاّ لكان الليبيون عرفوا شقاء العراقيين حين اظطروا لشهور طويلة الى أن يتابعوا محاكمة جلاّدهم وهو يزبد ويرعد ويسخر من جراح شعبه. quot;إنها لحظات تساوي العمر كلهquot;، كلمات يرددها أهالي الضحايا، وتتلقاها أرواح بريئة طالما حلّقت في سماوات الإنتظار، لحظات انتزاع الريش من طاووس العصر، وامتثاله صاغراً لحكم العدالة الحقيقية، إنها الشرعية المثلى أن يلقى الطغاة مصيرهم بكلمة غاضبة فيها الحياة لشعب بأسره.
وكحال جميع الظالمين الذين مكثوا في الحكم دهوراً، وجمّعوا الأنصار حولهم، بأموالهم لا بأخلاقهم، فإن هناك من يتفجّع لفقدهم- بالطبع لا أقصد عائلاتهم- وإن من الناس من يمتهن الفصاحة في غير موضعها، ويتفيقه بما لا يعرف، ومنهم من ينشد الشهرة فيصرح بآراء لا تتناسب مع خصوصية الحدث وتداعياته المأساوية، في هذا السياق تعالت أصوات تطالب بالتحقيق في ظروف مقتل العقيد البائد، وخرج علينا quot;خبراءquot; يتهمون أحرار ليبيا بأنهم ارتكبوا quot;جريمة حربquot; بحقه، يعاقب عليها القانون الدولي، لكونه صار أسيراً لديهم. وعبّر هؤلاء quot;الخبراءquot; عن رقّة شعورهم بالتأسي على القذّافي لما لقيه من إذلال وإهانة، كان يستحق أضعاف أضعافها. واجتهد آخرون بأن القتيل لا يعتبر أسير حرب بالمعايير الدولية، لأنه لم يقبض عليه خلال حرب بين دولتين، وقالوا: هو فقط مشمول بضمانات اتفاقيتي جنيف، الأولى والثانية، وتنصّان على التعامل الإنساني مع الفرقاء، أثناء الحروب الأهلية، والصراعات المسلحة، في إطار مايعرف ب quot;مبادئ العدالة الإنسانيةquot;.
يضاف لما تقدم، إن المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، طالبت بتشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات مصرع القذّافي، وقال المتحدث باسمها : quot;نعتبر التحقيق ضرورياًquot;، وإن ما أفصحت عنه الصور في هذا الشأن quot;مقلق للغايةquot;، كما توقعت وزارة الخارجية الأميركية، بأن يتوخى المجلس الإنتقالي الليبي، الشفافية في الكشف عن ظروف مقتله وأسبابه، ولنعالج أولاً القلق الدولي، ثم نأتي لمقاربة شفافية السياسة الأميركية!!
نعلم إن غارات حلف الناتو استندت الى قرار مجلس الأمن المرقم 1973 الذي كان الغرض منه حماية المدنيين من بطش قوّات القذّافي وأبنائه، ولأجل ذلك كان على الطائرات الفرنسية والبريطانية وغيرها، أن تقصف كتائبهم، وبالطبع لا يمكن تحاشي مقتل الرؤوس القائدة في أي مواجهات من هذا النوع، لذلك لامعنى لتصريحات أوروبية سابقة بأن هجمات الناتو لا تستهدف القذّافي، كما إنه من قبيل التلاعب بحقائق الحروب، قول وزير الدفاع الفرنسي بأن طائرات فرنسية حلّقت فوق قافلة تخص العقيد الراحل، لكنها رفضت أن تقوم بما هو أبعد من ذلك. وفي السياق نفسه ذهب بيان الناتو الى أن طائراته استهدفت مركبتين كانتا تقومان بعمليات عسكرية تهدد المدنيين. وفي كلتا الحالتين فاحتمال قتل القذّافي وارداً. الأكثر صدقية وبعداً عن لعبة الكلام، كان وزير الخارجية الإيطالي، فرانكو فراتيني، الذي أعتبر مقتل القذّافي عملية خالصة للثوار.
إن الإصرار على كون قرار مجلس الأمن المذكور لا يتضمن القضاء على القذّافي أو تغيير نظامه، يجعله عديم الفائدة وضرب من العبث القانوني، وهو يتناقض مع إدراجه تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز استعمال القوة العسكرية ضد أي جهة تمارس أعمالاً عدوانية، بما يفضي الى تهديد السلم العالمي أو يخل به، والذي لا تتضمن مواده (39-51) ما يمنع من استهداف رؤساء الدول، في العمليات العسكرية التي تفوض بها دول معينة لتنفيذ القرارات الدولية.
إن quot;العدالة الدوليةquot; تبدو كطير بغير جناحين، حين لا تقرن القول بالفعل، كما كان من أمرها في قرار مجلس الأمن المرقم 688، الصادر في الخامس من نيسان- ابريل، العام 1991، بشأن انتفاضة العراقيين في العام نفسه، الذي دعى صدّام حسين الى مراعاة حقوق الإنسان وعدم الفتك بالمدنيين، فلم يدرج تحت الفصل السابع، وبالتالي أودع في ملفات التاريخ، ما يشير الى أن لا عدالة دولية بالمعنى الحقيقي وإنما مصالح يجري الإتفاق عليها بين الكبار، وقد يصادف أن تفيد الشعوب من تفعيل قرارات معينة، كما في البوسنة وكوسوفو، لكونهما قريبتان من أوروبا، وليبيا لقربها أيضا ولثروتها النفطية الكبيرة.
إن الهيئات الدولية التي تطالب المجلس الإنتقالي الليبي، بالتحقيق في مقتل القذّافي، مطالبة بأن تجيب على أسئلة كثيرة، يقتضيها مبدأ العدالة الإنساني، بمعيار الحق وليس السياسة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لماذا لم تهتم بالتحقيق في الجرائم التالية :
قتل 1200 معتقل في سجن أبي سليم، في العام 1996، تلك الجريمة التي أضرمت الشرارة الأولى من نار الإحتجاجات التي قادت الى الثورة، بعد أن اعترف بها االنظام الليبي السابق في العام 2009، وعرض تعويض ذوي الضحايا، لكنهم رفضوا.
قرارات إعدام عدد من قيادات حزب البعث وكوادره في العراق، التي أصدرها صدام حسين في العام 1979، خلال اجتماع لمجلس قيادة الثورة، وجرى تنفيذها في الحال، دون أي محاكمة، وهذه الأحكام السريعة موثقة بفلم متداول بين الناس منذ ذلك الوقت.
تهجير مئات الألوف من العراقيين في الثمانينيات.
حملات تصفية آلاف من السجناء في العراق في التسعينيات.
تعذيب سجناء عراقيين في سجن أبي غريب، من قبل قوات أميركية.
بعد كل هذا أعود الى نصائح الخارجية الأميركية للمجلس الإنتقالي الليبي، باعتماد الشفافية في الكشف عن أسباب مقتل القذّافي، أي لغو هذا، أحقا لا تعرف واشنطن تلك الأسباب؟ ألا تكفي آلاف الجرائم التي ارتكبها لتكون سببا مقنعاً لقتله، ألم يقم هو بتوثيقها وإدانة نفسه حين تجرأ على وصف الثوار بأنهمquot;جرذانquot; ودعا الى إبادتهم، ثم لماذا لم تلتزم الإدارة الأميركية وبعض حلفائها، بالشفافية حين كانوا يقيمون أفضل العلاقات مع القذّافي وصدّام ويغضّون النظر عن انتهاكاتهما لحقوق الإنسان؟
لماذا لم تلتزم قوات الإحتلال الأميركية بالشفافية المطلوبة في معالجة العمليات الإرهابية في العراق؟
ثم أين الشفافية الأميركية في تعاملها مع انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين؟
أسئلة كثيرة لا يجهل معظم الناس أجوبتها، وفي اعتقادي إن المجلس الإنتقالي الليبي لديه من الشجاعة والإقتدار، ما يمكنه من التعامل مع المطالب الخاصة بنهاية العقيد، باعتبارها شأناً خاصاً بالشعب الليبي، وهذا لا يعني إنكار فضل قوات الناتو في تحقيق النصر لثورة الجماهير.
إن إعدام الطغاة حق للشعوب، وهم لا يحتاجون لمحاكمات لإثبات إدانتهم، فالمتهمون العاديون فقط لا نعلم عن ماضيهم وظروف انحرافهم، وقد يكون المجتمع قد تسبب في ما ارتكبوه من جرائم. ولو كنا أمام محاكم نورمبيرغ في العام 1945، لاطمأنت قلوبنا الى أن الحكام الجبابرة سيلاقوا مصير قادة النازيين، لكننا الآن في عصر حقوق الإنسان، التي مع إيجابياتها الكثيرة، أصبحت سلاحا بيد بعض الإرهابيين، وهنا أشير الى ماتردد في الصحف البريطانية، من أن أحدى المحاكم توصلت الى حكم بطرد إرهابي من بريطانيا، إلاّ إن هناك مشكلة، كيف تعيش قطته من دونه، وكيف يتحمل هو فراقها!!
أخيرا أنهي هذا المقال بالتنويه الى إشاعة فاقعة أطلقها مؤيدون للقذّافي، وتقول : إن الذي قتل ربما لا يكون هو، بل شبيهه، وهو ما يذكرنا بواقعة القبض على صدّام، حين تداول أنصاره القول نفسه.