كلما تداعت بي الظنون عن حال العراق، واشتد لهيب الصراع بين سماسرة السياسة، تذكرت كلمات الشاعر البصري الراحل عبد الحسين الحلفي وصوته الصادح بالألم، وشكواه من وطن يأكل أبناءه وتتنازع فيه الكراسي فتدك قوائمها رؤوساً أتعبها التضرع للإله، وهي تنشد شيئاً من الرحمة أوقطرات من المطر. مفرداته تتجول في ثنايا قصائده، فتنوب عنّا لتعاتب وتحتج وتبكي، تلقي بنا فوق تلال من الحزن المعمّر، دموع اليتامي تشجيه فيرقبها وهي تشقّ خدودهم، بينما قادة البلاد كما يراهم تنشق أفواهههم من شدة الضحك، والوطن سفينة تبحر في دمائنا، شراعها من أذرعنا، لكن رباّنها لم يتعلم الإبحار، بل يعرف كيف يسخر من ركابها. والشاعر في انطلاقته لا يحب أهل الكراسي، يهجوهم لأنهم ليسوا فقط حراساُ فاشلين، بل لصوصاً ماهرين، والقول مازال بعد للحلفي، وهو مبهور بوطنه المزروع بمراقد الأئمة، لكنه خال من ظلال الرحمة، في كل يوم له قيامة، quot; فإذاً ما أسهل يوم القيامة quot;. يقول لمن يصلّي، لماذا تحوسم (تسرق باللهجة الشعبية) مادمت تعرف الله؟ فيجيبه: أحوسم لأن الحوسمة مستحبة ولكن بالسر فقط (سكتاوي) ويضيف المصلي، إنما الأعمال بالنيات وأنا صحيح حوسمت، quot;بس ماكنت ناوي، كنت مجبور وعلى الأحوط وجوباً ..quot;!!
أبيات الشاعر التي أنقل معانيها، تحكي قصصاً عن معاناة الناس في ظل مايسمى quot;العراق الجديدquot;، وهو جديد فعلاً بخلاصه من حاكم جبّار على شعبه، لكنه ليس بجديد في عقلية حكامه الجدد، وضيق أفقهم السياسي والمعرفي، هنا يعبر الحلفي عن غبطته وحمده لله لرحيل صدّام، لكنه يستدرك فيقول إن كثيراً من القادة أصبحوا يتشبهون به. ويضيف الشاعر برهافة حسه وقربه من واقع الحال فيقول: quot;وأكو صدّام لابس عمامةquot;، quot;قبل كان رفيق وهسه مولانا quot;، لكنه لا يستهين بالقيمة الرمزية للعمائم ولا بأصحابها، بل يؤكد تقديره لهم quot; العمايم احترمها الفوق الراس بشرط أعرف شنو حدر العمايمquot; ويقصد إن احترامه مشروط بمعرفة حقيقة ما يدور في رؤوس المعممين من أفكار ونوايا. وحتى لا يبدو كلامي سلبيا تجاه رجال الدين ، لابد من توجيه التحية لإثنين من المراجع الكبار في النجف، اللذان عبّرا عن غضبهما من أنانية السياسيين واستغراقهم في التقاتل على المكاسب، فقد ورد عن المرجع بشير النجفي إنه سيمتنع عن استقبالهم، لعدم التزامهم بالنصح ( تصريح نجله لوكالة فرانس بريس)، وكذلك نقل عن وكيل المرجع علي السيستاني عبد المهدي الكربلائي، قوله quot; أن خلافات السياسيين لا علاقة لها بمصالح البلاد، وانهم لم يتوقفوا عن التناحرquot; وأضاف بأن النصح الذي أسدته المرجعية لهم quot; يحتاج الى رجال دولة لديهم نكران الذات، وما نشاهده إن الطروحات كلها حزبية وفئوية ...quot;.
وللمراجع في العراق تاريخ طويل، منه ما كان إيجابيا مثمراً أفضى الى التعجيل بتأسيس الدولة العراقية، واقصد قيادتهم لثورة العشرين ضد الإحتلال البريطاني، على سبيل المثال. ومنه ما كان سلبيا أسهم في تقويض المكاسب الإجتماعية والإقتصادية التي تحققت في العهد الجمهوري بعد العام 1958 ومن ثم ساعد على وصول حزب البعث الى الحكم وبدء عهده الدموي، وما أعنيه بالتحديد موقف مرجعية محسن الحكيم التي تصادمت بشكل غير مبرر مع الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، على الرغم من مبادراته الودية المتكررة تجاهها.
وبعد الغزو الأميركي في العام 2003 أصبح للمراجع، وبخاصة السيد علي السيستاني نفوذاً معنوياً كبيرا على الناس، لطول جهاده السلبي ضد سلطة صدّام وامتناعه عن التعامل معها، ولافتقاد الناس الى زعامة حقيقية يمكن ان تقودهم في تلك الفترة العصيبة، وبدرجة اقّل كان نفوذ رؤساء العشائر، الصدّاميين منهم والمستحدثين. ما كان سلبياً أيضا من أدوار المرجعية هو إقحامها لنفسها في مسألة الإنتخابات وضغطها باتجاه تعجيلها وإجرائها في العام 2004، في وقت كان الإرهاب ينهش بالجسد العراقي، صحيح إنها تأثرت بتوسلات قادة الأحزاب الدينية، لكن الأصح إن المرجعية ذاتها كانت تسعى الى إقامة سلطة دينية، دون أن تعلن ذلك صراحة. ومرة أخرى يرصد شاعرنا مشهد الإقتراع قبل أوانه، فيقول متسائلاً: quot; يريدوني انتخب والوطن غابة، هم شفتوا غابة بيها انتخابات؟ quot;. إذاً فأنا لا أشك بأن مرجعية السيستاني وهي تنتقد السياسيين، أدركت خطأ المراهنة عليهم، وكم أساءت الى مفهوم الإنتخاب حين أصّرت على إجرائها مبكراً، وسيّرت المظاهرات لأجل ذلك، هذا إذا كان كل ما سمعناه منسوباً حقاً اليها، لأننا للأسف لا نسمع صوتاً مباشراً من السيد السيستاني، مع إن النبي (ص) والائمة والصحابة، كانوا يتحدثون الى الجماهير من أتباعهم، دون وكلاء.
ليت المراجع الكبار يكملون جميلهم فيشملون بغضبهم مجموعة كبيرة من رجال الدين الذين يسهمون بتجهيل الناس وبعث مفاهيم التخلف من أدراجها العتيقة، ليتهم يعيدون إلى الدين هيبته ويواجهون سطوة المتاجرين بالطقوس والشعائر، ويقولون للناس إن السلامة نعمة ينبغي المحافظة عليها، فلا يهدرونها في مسيرات مليونية تجعلهم طعاما لذخائر الإرهابيين، ليتهم يفعلّون قول الله في من يجمعون الذهب والفضة والمال، وكيف ستكوى جباههم جزاء ما كانوا يحرزون ولا ينفقون على المحتاجين. وبعد ليتهم ينصحوا الفقراء أن لا يرموا بنقودهم القليلة في الأضرحة لتعجيل مرادهم، أو في الأقل يأمرون من يجمعها من قبلهم أن ينفقوها على المحرومين.
أن أفضل ما يمكن أن تقدمه المرجعية بإمكاناتها المادية الكبيرة، هو أن تبني المؤسسات الخيرية لأيواء المشردين واليتامى، وأن تسهم في إصلاح الخراب الذي اجتاح نفوس الناس، وأن تتحول هي بذاتها الى مؤسسة ذات ميزانية معلنة، لتخرج من الأطر العائلية والحسابات الضيقة. إن الإمتناع عن استقبال السياسيين خطوة جيدة، وإذا كانت تعني استقالة المرجعية من مهمة التدخل في شؤون الحكم، وقطع الطريق على تجار الدين من المسؤولين، فإن هذا يساعدها على التفرغ لعمل الخير الذي هو أكثر ما يحتاجه العراق، وللخير دروب كثيرة يمكن أن تبذل فيه أموال الخمس الوفيرة (الخمس نصيب رسول الله في الغنائم، يعتقد أغلب فقهاء الشيعة إنها ضريبة متواصلة يتوجب على المؤمنين دفعها لبعض رجال الدين ممن يتمتعون بمواصفات معينة) .
وبخلاف هذه الإستقالة فإن جهة دينية ndash; سياسية أخرى، دائرة بين الوصل والبعد عن إيران، في الظاهر، تنتقد الأحزاب الكردية الحاكمة وعلّو سقف مطالبها، وكونها تناور وتستغل الخلافات بين رئيس الوزراء ورئيس القائمة العراقية علاوي، وتعتبر هذه الجهة إن الفيدرالية ستقود البلاد الى أمور لا تحمد عقباها.
وبعيدا عن رجال الدين وتأثيرهم في السياسة، مازال المواطنون العراقيون يتعثرون بعلمانية أياد علاوي، واقليمية مسعود البارزاني، ومركزية المالكي، وحيرة الرئيس الطالباني بين عين على الإقليم وعين على الرئاسة ، وقد دعى مؤخرا الى اجتماع لقادة الكتل السياسية للتوصل الى توافقات حول تثبيت مصالحهم وحصصهم في السلطة، وفي حالة فشل هذا المسعى فإن الدكتور علاوي سيكشف عن محتوى اتفاقات أربيل، فأي اسرار تنطوي عليها،أي تفريط بحقوق الناس لإرضاء السياسيين، هذا إذا ما صحّ تهديده. أما رئيس إقليم كردستان فقد قام بزيارة الى مدن خانقين وجلولاء والسعدية، في محافظة ديالى، وهي من المناطق المتنازع عليها وتقع غير بعيدة عن الحدود الإيرانية، وسكانها مزيج من العرب والكرد والتركمان، وقد أعلن من هناك عن تبعية هذه المدن لكردستان، وإن القوات الكردية الموجودة فيها تتولى حماية الكرد. بالإضافة الى كل هؤلاء هناك مجاميع الإرهابيين الذين أفلسوا وصاروا يبيعون بضاعتهم لمن يحتاجها من السياسيين وأصحاب المال الحرام، فقد مضى عهد الفتاوى العابرة للبلدان ( أقتل خمسة من الشيعة تدخل الجنة، أو أثنين أو حتى واحد )، وقتل من قتل من أمرائهم العرب ndash; الأفغان، ولم يبق منهم الا القليل برفقة بعض المتعاونين من البعثيين، لكنهم في غاية الخطورة، والشاهد جريمة النخيب المروعة في الأنبار.
ما تقدم فقط مقطع من لوحة الخلافات العريضة بين معارضي الأمس وحكام اليوم، وما يواجهونه من أخطار يصنعونها بأنفسهم أو يتقاعسون عن مواجهتها، وهم غالباً ما يطلّون عبر الفضائيات ليزفّوا لنا البشائر بأنهم أتفقوا على شيئ ما، وكأنما دارت رحى الحروب، وجرت أنهار الدماء، وتقوّض نظام صدّام، فقط ليتربعوا هم على منصة الحكم ويتوافقوا على اقتسام ثروات البلاد، ابتساماتهم عريضة، وبعضهم يتلاعب باللغة ويتظاهر بالخشوع، والبعض الآخر شديد الصلف وقد أدمن الكذب فلا يستحي. لكل ذلك أعود الى شاعرنا، الحلفي، شهيد المرض والقهر، إذ يخاطب الأقدار فيقول: quot;عراقيين صرنا ملوحة للموت، وما يستلذ الا بينا، وموت الله نلغى بهذا الوطن .. يحلالي العتب ياوطن وياك لأن بس الأحبهم أعاتبهم .. quot;
أختم هذه القطرات الشجية من نهر حزن الشاعر، بتفاؤله الجميل بما سيحمله الغيب البعيد، يقول: quot; بكل شيئ اقتنع، حتى اللي مو على البال، بس شيئ واحد ما أقتنع بي، جنسيتك عراقي وتدخل النارquot; أجل فالحكمة تقول أن لا نار بعد النار، فالجنة لكم ياعراقيين وما عليكم الا أن تنتظروا!!