خيل لي وأنا أرقب مذهولة اشتعال برجي التجارة وتفجرهما، وكيف استحالا الى رماد تخلّف من حرقة الأرواح والاجساد، خيل لي أن أميركا كلها تنهار، كما لو أن نيزكاً هائلاً قد انقضّ عليها وغار في أرضها فابتلعتها أمواج المحيط، شعرت بالخوف والجزع وأشفقت على أقارب حسبت اني لن أراهم، وجموع من العراقيين تفرقوا على مساحة تلك البلاد الشاسعة. قلت ها هي قلعة الرأسمالية تأكلها نيران غاضبة، فماذا سيكون عليه حالنا، في بلداننا التي تأخرت عن ركب الحضارة وسكنت في تاريخها المأزوم بالروايات، وأي قوة عاتية ستتحكم بمصير العالم بعد ما حصل، ما من إتحاد سوفيتي كان نصيرا لنا ومبتلياً بمصائبنا ونفاقنا، ظننت لحين إن مارد الصين العظيم قد أذن لسفنه الراسية أن تبحر صوب ديارنا، من مرافئها التي تجددت مياهها وتنوعت رياحها لتهب على أقطار الدنيا. هنا تذكرت ما سمعته عن كتاب قديم حوى نبوءات كان الناس يتداولونها في العراق، بعضها تحقق تماماً، منها quot;إن بني الأصفر قادمون الينا في زماننا هذاquot;، إذا هو العصر الصيني وقد بدأ. وبعد مزيج من الحيرة والذهول اطلّ علينا بن لادن من جزيرته ليعلن مباركته ل quot;غزوة نيويوركquot; التي جاءت لتثأر من امريكا- على حد زعمه- جزاء ظلمها للمسلمين في فلسطين والشيشان وكشمير والعراق، عندها خابت ظنوني وسخرت من نبوءات الأقدمين. لكني في كل ذلك وقعت أسيرة خوف آخر، فكوني عراقية أعرف جيدا ما يعنيه العدوان على الناس الآمنين وتفجيرهم، ولا أنسى ما روته لي قريبتي من انها شاهدت أشلاء أحد ضحايا تفجيرات القاعدة، وليس بعيدا عنها جثة انتحاري عربي متفحمة ومربوطة بسلاسل الى مقود سيارته. المفجرون بيننا وفي جوارنا فأي خوف أعظم من هذا.
ليس في هذه المقدمة رسالة حب لأمريكا بقدر ماهي تعبير عن الخوف من المستقبل. إن من نتائج الحماقة السياسية الأميركية، وما اقترن بها من غرور وشرور، ان اصبح العالم كله يواجه محنة الإرهاب، ليس ارهاب المنظمات فقط بل ارهاب الحكومات ايضاً، واذكر هنا كيف ظهر الرئيس بوش الأب وهو يذرف الدموع لأنه لم يستغل فرصة حرب العام 1991 للإجهاز على صدام حسين، ولابد انه بكى ندماً وهو يتابع الدمار في رمز عاصمته الاقتصادية، وتذكر الدعم الذي قدمته الادارات الاميركية المتعددة، للمجاهدين الأفغان، وكيف ساهمت ببناء الآلة الحربية لمقاتلي القاعدة، وكيف أذنت لحلفائها بأن يشحذوا الآلة الدعوية، ويغدقوا الاموال لتنشيط صناعة الموت، ها هو الموت يقترب منه. والسؤال هل كان رؤساء الولايات المتحدة وقادة مخابراتها يجهلون مدى القوة التعبوية للدين حين يوظف في الحروب والسياسة، هل كلفوا انفسهم عناء الإطّلاع على تاريخ المسلمين وحروبهم الداخلية، هل سألوا عن آلية فتاوى العنف وأصولها الضاربة في القدم،وكيف تلعب بعواطف الشباب؟ وبعد هل يفخر أصحاب القرار في واشنطن بجهلهم بطبيعة المناطق التي يتدخلون فيها؟
إن قسوة درس الحادي عشر من ايلول- سبتمبر، دفعت بعض الأميركيين الى دراسة الاسلام، لكني أجد اننا أحوج منهم الى مثل هذه الدراسة، تمهيداً لمسيرة إصلاح ديني شامل يستهدف تنقية عقائدنا من تفسيرات جائرة لنصوص قرآنية، ونزعات مريضة تشرّع للعنف ضد النفس والآخرين، ولا يكون ذلك الا بتفنيد مقولات أضفى عليها بعض منظري الإسلام السياسي طابع القدسية منها شعار quot;الحاكمية للهquot; القديم، الذي استعاده ملهم الإخوان المسلمين أبو الأعلى المودودي، عالم الدين الباكستاني (ت 1979)، وقصد منه، حسبما أوضح الهضيبي أحد مرشدي الإخوان quot;التعبير عن معان عامة لجذب انتباه الناس الى اهميتها، وليس وضع احكام فقهية، بخاصة التفصيلية منها..quot; (مقال عن مئوية المودودي- محمد جمال باروت). وكان الهضيبي قد حذر من ضعف فقه المراجعات لدى جماعته، في رسالته المعنونة quot;دعاة لا قضاةquot; وأبدى خشيته من ان quot;يتحول مصطلح الحاكمية الذي انتجه المودودي، بوصفه مفهوم للسيادة في الدولة الاسلامية، الى مصطلح يظن معتنقوه انه الأصل الذي يرجع له والحكم الكلي الجامع الذي تتفرع عنه مختلف الاحكام التفصيليةquot; (باروت). إن اعتماد مبدأ الحاكمية الإلهية، من قبل أي حزب إسلامي، انما يعكس توجها مبطنا للتفرد بالحكم وفرض مفاهيمه الخاصة للدين على الجميع. ولما كانت النبوة قد اختتمت بالنبي محمد (ص)، فكيف تكون الحاكمية لله من غير انبياء، أم ترى ان من يتبعون تعاليم سيد قطب،بخاصة كتابه معالم في الطريق، قد جعلوا من انفسهم في مقام الرسل فأجازوا إعمال السيف في رقاب الناس باسم الحاكمية، وورّثوا مفاهيمهم لاجيال من المتشددين في العقيدة؟
إن نقص المراجعة في فكر الأخوان هو الذي أدى الى تحول بعضهم الى جماعات إرهابية، كما ساعدت على ذلك أساليب البطش والتعذيب، الذي مارسته السلطات الغاشمة في المعتقلات، بحق الإسلاميين.إن ما يتحصن به الإرهابيون من أسلحة ومتفجرات ومخابئ، لا تعدو شيئا أمام سطوة ما يستندون اليه من تفسيرات متشددة لآيات قرآنية، جرى انتزاعها من سياقها التاريخي، وما ورد في سورة التوبة أوضح مثال، فالآية الخامسة تقول: quot; فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إن الله غفور رحيمquot;، وعلى أساس فهم بعض المفسرين لهذه الآية، يتوجب قتل المشركين في كل زمان ومكان، وقد طوّر مفكروا الإرهاب صفة الشرك لتشمل اتباع الديانات السماوية الاخرى، واعتبروا إن الجهاد يقتضي مهاجمتهم في بلدانهم التي اعتبروها ديار حرب. ولم يراع اولئك المفسرون ظرفية التنزيل وكون المسلمين آنذاك في حالة مواجهة مع أعدائهم، وضربوا بعرض الحائط آيات كثيرة تشتمل على مبادئ أساسية، وتنص على حرية العقيدة quot; لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيquot; (البقرة 255)، قالوا عنها إنها نسخت بآية القتال، واحتجوا بأحاديث تنسب الى الرسول لتأكيد رأيهم، من قبيل: quot;أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم..quot;. ومهما كان رواة هذا الحديث، أو مصدره فإنه لاينسجم مع آية تقول صراحة بأن الرسول لا يملك أن يجبر الناس على الإيمان: quot;أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينquot; (يونس 99)، وأخرى تؤكد المعنى نفسه: quot;فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطرquot; (الغاشية 12-22)، بالإضافة الى آيات أخرى كثيرة بهذا المعنى، تخاطب رسلاً وتثبت مفهوم حرية الإختيار الديني. أن التاريخ الإسلامي حافل بقصص استغلال الدين، وبخاصة الأحاديث لتمرير مصالح الحكام ومحازبيهم، وكم من ألوف منها نسبت زوراً الى النبي واختلقت مناسبات، بل حتى أشخاص جرى اختلاقهم لتسويق فكرة سياسية او لتشويه سمعة فرقة او مذهب. ومازالت فضائيات عدّة تردد أحاديثاً لرواة كأبي هريرة الذي اشتهر بآلاف الروايات، على الرغم من الإشكالات المحيطة بشخصيته، وإنكار السيدة عائشة لأحاديثه ووصفها له بالكذّاب، بالإضافة الى طعون كثيرة بصدقيته، وردت من قبل فقهاء وكتّاب من ذوي المصداقية. إن إعادة قراءة التاريخ تجعلنا نمسك بطرف حبل النجاة من أهوال الإرهاب، كما إن إطلاق حرية الفكر لمناقشة المسلّمات التي سيطرت على العقول، هو الخطوة الأولى والأساسية في حربنا ضد التطرف والإرهاب، لأن أخطر ما يواجهنا هو حظر تداول المعرفة النقدية، الذي مارسته وما زالت، مؤسسات دينية مختلفة، وأغرت بنهجها هذا الجماعات المتشددة بممارسة الأسلوب نفسه في تهديد الكتاب والباحثين، واغتيال نخب منهم، وقد جرى ذلك على مدى تاريخنا الطويل.