جاءت زيارة الدكتور محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الانتقالي الليبي، الى بغداد لتقدم نوعا من الدعم المعنوي الى حكومة العراق، التي تشكو من ضعف علاقاتها العربية، لأسباب تتعلق بأدائها، وأخرى ذات صلة بطبيعة الأنظمة الشقيقة وتنوع مصالحها. وأهمية هذا الدعم مردها الى شمولية التأييد العربي لثوار ليبيا ( عدا سوريا والجزائر)، كما إن حكومة العراق تتفهم أكثر من غيرها ما تواجهه الثورة الليبية من مؤامرات حزب البعث، سواء بقاياه من العراقيين الهائمين في دول الجوار، الذين حظوا برعاية القذافي، أو جناحه السوري الآيل الى السقوط. وحسب رئيس الوزراء الليبي الأسبق، محمد عثمان الصيد، فقد شهدت ليبيا في العام 1962 محاولة انقلابية بعثية، شارك فيها سعدون حمادي (وزير بعثي عراقي سابق)، وكان من بين الذين ألقي القبض عليهم، في حينه، حيث عمل كموظف في البنك المركزي الليبي ( في حديث للصيد لجريدة الشرق الأوسط - 13 أيار 2003). وللعراق وليبيا تاريخ من التعاون يعود الى بداية الخمسينيات، ففي ذلك الوقت لم يكن العراق قادراً على تقديم المساعدات المالية لليبيا المستقلة حديثا، لضعف إمكاناته وقلّة حصته من موارد النفط، لكنه كان مستعدا للمساهمة في تكوين الجيش الليبي وتدريبه، وقد أوفد بعثة عسكرية لهذا الغرض في أواخر العام 1953. ويؤكد رئيس الوزراء الليبي الراحل على كفاءة الضباط العراقيين ونجاحهم في مهمتهم، ويشهد لهم بأنهم لم يتدخلوا في شؤون بلاده، ويشير أيضا الى إيفاد ضباط ليبيين للدراسة في الكليات العسكرية العراقية. بالإضافة الى ذلك فقد استعانت الحكومة الليبية في العام 1960 بخبرةالسياسي العراقي، عدنان الباججي، لتعديل قانون استخراج النفط، بهدف زيادة حصة ليبيا من العائدات النفطية الى النصف. غير إن العلاقات بين البلدين توقفت بعد قيام الجمهورية العراقية في العام 1958، وامتنعت الحكومة الليبية عن الاعتراف بالنظام الجديد، لما احتفظت به من أواصر طيبة مع أقطاب العهد الملكي، ولكن بعد شهور، واتصالات بين بغداد وطرابلس، وافق الملك إدريس السنوسي على الإعتراف بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، غير ان العلاقة لم تعد الى سابق عهدها من الانسجام والتعاون. وحين حملت الأقدار الحزينة ذلك القذافي الى سدة الحكم، كان زملاؤه البعثيون قد سبقوه الى وضع أيديهم على رقبة العراق، فكانوا أول المهنئين بنجاح انقلابه.
في العام 1978 وفي غمرة الإدعاءات الثورية والمزايدات في سوق القضية الفلسطينية، اجتمعت حكومات ليبيا والعراق واليمن الجنوبي والجزائر وسوريا، لتبدأ مسيرة ما سمي ب quot;جبهة الصمود والتصديquot;، في مواجهة خطة السادات لفتح أبواب الحوار مع إسرائيل، التي أثمرت عن عودة سيناء، بينما لم تحصل فلسطين من تلك الجبهة إلا على الخطابات، وشق الصف الفلسطيني، وبعض المساعدات. وفي العام 1980 سحب صدّام حسين الإعتراف بجماهيرية القذافي، بعد أن انحازت ليبيا الى إيران في حربها مع العراق، أسوة بسوريا. وكان القذافي قد نكث بوعده تزويد مصر بالبترول أثناء حرب أكتوبر، ما حدا بشاه إيران الى أن يعوضها بما تحتاجه منه. وفي هذا المجال فإن صاحب quot;الجماهيرية العظمىquot; يشبه نظيره صدّام حسين الذي كان يصّر ويضغط على الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر، لسحب القوات العراقية من سوريا، في الوقت الذي كانت القوات الإسرائيلية قريبة من دمشق، خلال تداعيات المواجهات في حرب أكتوبر.
كلاهما تاجرا بالعروبة حتى بارت سلعتهما، نزواتهما وارتباطاتهما المشبوهة أرهقت شعاراتهما الصاخبة، فالقذافي الذي أصبح quot;أمينا للقومية العربيةquot; بنص مكتوب من الرئيس الراحل عبد الناصر، ترك الأمانة المزعومة ليعبث في أفريقيا ودول أوروبية، وكذلك صدّام في أسفاره quot; كقائد للأمة العربيةquot; افتتح قادسيته المشؤومة، واكتشف المحافظة التاسعة عشر في الكويت، لينتهي هارباً الى حفرة سحيقة ويترك العراق حقلاً لتجارب الأشرار. إن نقاط الإلتقاء والتعاضد بينهما تعبر عن الإحساس بحتمية المصير المشترك لكليهما، فالعقيد المشرّد كان أول من حذر من انتفاضة الشعوب ضد حكامها، في أحد مؤتمرات القمة العربية، مخاطباً نظراءه بأن الدور سيأتي عليهم بعد صدّام، حينها ضحك الرئيس بشار الأسد، ظاناً إن نظامه سيبقى في منأى عن العواصف. وظل بطل خريف ليبيا مدافعاً قويأً عن إرث البعث العراقي، وشاركته ابنته عائشة حين تطوعت للترافع عن صدّام أثناء محاكمته في بغداد، التي دامت أكثر من عام، قال خلالها كلما يريده، ولبس أزياءه المختلفة، وألقى خطبه المعتادة، بينما لم يحظ أغلب سجناء الرأي في عهده بغير دقائق لسماع حكم الإعدام.
وعلى مر السنين بعد سقوط صدّام، اتسعت خيمة القذّافي لاستقبال بعض البعثيين العراقيين، والمرتزقين في بازارات السياسة، وأدعياء المقاومة من ذوي الأهواء المعروفة، وجرى التنسيق بين النظامين الليبي والسوري للتآمر على حكومة العراق، وهذا ما أفصحت عنه مهمة مبعوث القذافي، راجي عبد العاطي مفتاح، الذي وصل الى عمّان في بداية العام 2009، للتباحث مع البعثيين من أتباع عزّة الدوري (كان نائباً للرئيس) وتسليمهم رسالة منه، تشير عليهم بأن يندمجوا مع البعث السوري بقيادة الأسد، وتقول لهم: quot; يا بعثيين لا تضيعوا الفرصة التاريخيةquot;. وليس هذا فقط، بل إن دبلوماسية العقيد تقدمت الى الأمم المتحدة بطلب التقصي عن شرعية إسقاط صدّام.
واليوم نسمع عن فضائية الرأي المؤيدة للقذّافي، التي تبث من دمشق ويمتلكها مشعان الجبوري، البعثي ذو الأدوار المتعددة في خدمة النظام السابق في العراق، والذي أصبح عضواً في البرلمان العراقي بعد العام 2003 حتى رفعت عنه الحصانة بسبب إعلان الحكومة عن اكتشاف اختلاسه لأكثر من مليون دولار من الأموال المخصصة لحماية أنابيب البترول، وكونه ينسق مع المخربين لتفجيرها لاحقاُ، وبسبب ذلك هرب الى دمشق. هكذا يتواصل الترابط بن أتباع الحكام الطغاة، فبعد سنوات من نشاط الجبوري ضد النظام العراقي الجديد عبر قناته الفضائية quot;الزوراءquot;، ورفعه لشعار quot;المقاومة الشريفةquot; وإسباغه على من كانوا يستهدفون العراقيين الأبرياء بالقتل والتفجير، في كل مدن العراق، يواصل مهمته في الدفاع عن القذّافي، من سوريا برعاية قيادة الأسد quot;الممانعة والمقاومةquot; .
وبعد كل ما تقدم، اعتقد بأن زيارة رئيس الحكومة الليبية المؤقتة لبغداد (في أوائل أكتوبر)، وإن كانت قصيرة، إلا أنها ذات مغزى، وهناك الكثير مما يمكن التعاون فيه بين البلدين، بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وعلى الرغم من سخرية البعض من إمكانات الحكومة العراقية في تقديم شيئ من دروس تجربتها الى نظيرتها الليبية، إلا أني أجد بعض المشتركات لدى الجانبين يستحق التوقف عنده والتشاور في كيفية معالجته. بالطبع فإن من أهم الأمور المشتركة، التنسيق لمواجهة مؤامرات البعثيين التي تستهدف كلاً من ليبيا والعراق، وتنطلق من دمشق الحصن الأخير لحزب البعث العربي الإشتراكي ورسالته quot;الخالدةquot;. ومما يؤسف له إن حكومة العراق غير قادرة على اتخاذ موقف مؤازر لثوار سوريا، لكونها مضطرة لمسايرة إيران في حلفها مع نظام الأسد، ولكون الأراضي السورية مازالت خصبة لتصدير الإرهابيين الى العراق، عبر الحدود الطويلة، هذا فضلاً عن وجود آلاف من اللاجئين العراقيين هناك، غير إن ذلك لا يعني عدم تمكن حكومة العراق من كشف أساليب البعثيين الذين استهدفوا الشعب العراقي بعمليات إرهابية، ويمكن أن يثيروا المتاعب لعرقلة مسيرة المجلس الإنتقالي الليبي، بالتعاون مع القذّافي وأبنائه، فالخبرة العراقية في هذا المجال كبيرة ويمكن عرضها على الليبيين، وإن كان العراقيون لم يستفيدوا كثيرا منها، بسبب ضعف الحكومة وفساد أغلب أجهزتها.
والقيادة الليبية الجديدة تحتاج الى مقاربة التجربة العراقية، منذ بداية الإجتياح الأميركي، مروراً بواقعة القبض على صدّام وإعدامه، وكل ماشهده العراق من إرهاب وموائد مصالحات، وتخبط أميركي ونفوذ إيراني متعدد الجوانب. من المشتركات بين البلدين إن العامل الخارجي في تغيير النظام في كليهما كان حاسماً، مع فارق كبير هو إن القوات الأميركية التي غزت العراق في العام 2003، لم تستعن بالسلطة الكردية المستقلة عن نظام صدّام، في شمال العراق، كما لم تدعم الإنتفاضة في العام 1991 التي عمّت معظم مدن العراق، لأسباب وظروف لا مجال لشرحها هنا، بينما بادرت فرنسا بقوة، للدعوة الى تدخل عسكري لنجدة ثوار ليبيا وسلطتهم في بنغازي، وحين كانوا يصارعون كتائب القذّافي العاتية جاءت ضربات الناتو الجوية لترجح كفتهم. وإذا كان حكام العراق قد فشلوا في الإستفادة من الأميركيين في إدارة شؤون البلاد، بسبب نفوذ إيران، وبعض الدول الإقليمية، والتنازع بينهم على المكاسب السياسية والأموال، فالمؤمل أن يكون حظ الليبيين أوفر، لكون جوارهم آمن نسبياً قياساً بالعراقيين، وبإمكانهم مراجعة ملف الإخفاقات التي مني بها العراق ودراسة أسبابها.
التنوع الطائفي والديني والقومي في العراق وما ترتب على كل من هذه الحقائق، من مشاكل ومواجهات، يمكن أيضاً أن يكون موضوعاً يتدارسه ثوار ليبيا لتلافي ما قد يواجهونه من مخاطر الإنقسام القبلي، فبلادهم حديثة العهد بوحدة الدولة، فإلى ما قبل الستينيات كانت تضم ثلاثة أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي، هي برقة وطرابلس وفزان، ولم يعمل نظام العقيد على تقوية هذه الوحدة، بل كان معنيا بتشويه هوية البلاد. ومما يدعوا الى الإطمئنان على مستقبل ليبيا بعد القذّافي، إن هذا كان قد أحرق مراكبه في بحر الخليج، لجلافته وقلّة أدبه، مادفع بدول مجلس التعاون الخليجي الى الإصطفاف ضده، فكان ذلك مكسباً للثوار.
ويبقى الكثير مما يستحق التعاون بين ليبيا والعراق، بخاصة فيما يتعلق بالنفط، باعتبارهما بلدان منتجان ومصدّران له، ومن المهم أن يتبادلا الخبرات المتعلقة بكيفية التعامل مع الدول المنتجة الأخرى، والشركات الأجنبية، المستعدة لقطف ثمار مساعدة الناتو للثورة. ومن القضايا المهمة التي ينبغي الالتفات لها هي العلاقة بين المعارضين السابقين للقذّافي، الداخليين منهم والذين كانوا في المنافي، فمدى النجاح في التوصل الى نوع من التوازن بينهما، يتوقف عليه جانب كبير من الإستقرار. وأخيراً وليس آخراً، من المهم تحسس خطر بعض المتشددين الأسلاميين، والتحسب من محاولاتهم للتأثير في مسار النظام الجديد. فتحية لثوار ليبيا الذين رفعوا أول علم لدولتهم وأطاحوا براية القذّافي، وهذا ما لم يتوصل له حكام العراق لأنهم تنازعوا وظن الإسلاميون منهم إنه ليس من المناسب أن يرفعوا كلمة الجلالة، فوقعوا في فخ صدّام الذي خطها بيده، تجارة بالدين، وكما أدمى قلوب العراقيين، كان قد أمر بكتابة القرآن الكريم بدمه، فأدمى آيات الرحمان.
- آخر تحديث :
التعليقات