إن تاريخ البشرية، كما يقول الكاتب المتميز، أحمد عباس صالح، هو quot; سلسلة من الثورات الفاشلة حتى تتحقق ثورة ناضجة، لا تلبث هي الأخرى أن تتجمد أو تغتصب لتظهر ثورات أخرى تتابع في فشلها حتى يتحقق النصر الحاسم ... والثورة ليست سابقة لأوانها أبدأً فالشرارة الأولى هي دائماً الإعلان الحاسم بوجوب نقلة أخرى، وهذه النقلة قد تنتظر طويلاً حتى تتحقق .. quot; تصدق هذه الأقوال على جميع الثورات التي نشهدها في المنطقة العربية، ويمكنني القول إن يساريي تونس والديمقراطيون والشيوعيين، وهم يمرون بمرحلة صعبة، يتحتم عليهم فيها التعامل مع حقيقة فوز حركة النهضة الإسلامية في الإنتخابات، متقدمة عليهم، على الرغم من تاريخهم النضالي، لابد انهم يتذكرون تلك الأقوال في مراجعتهم لفشلهم، ودراسة أسباب نجاح منافسيهم الإسلاميين.
ومنذ بدايات التحرك الشعبي ضد نظام بن علّي، كان هناك قلق من أن تؤدي الثورة عبر مساراتها الطويلة، إلى إحداث تغييرات من شأنها أن تمس بالإصلاحات الإجتماعية، التي تحققت بفضل سياسة الرئيس التونسي الراحل بورقيبة، وجرأته في التعامل مع المسلّمات التقليدية، والتي جاءت نتائجها بنهضة حقيقية للمجتمع التونسي، تستحق كل تقدير، وجهد إستثنائي للمحافظة على إنجازاتها، والإستعداد لمواجهة أية محاولة للإجهاز عليها.
وكانت تونس قد سبقت نظيراتها العربيات، بأول تشريع دستوري سمّي ب quot; عهد الأمان quot;، على عهد وزيرها خير الدين التونسي، في منتصف القرن التاسع عشر. وعرفت شخصيات إسلامية مستنيرة، كان لها تأثير في الفهم الشعبي للدين بطريقة، لاتتصادم كثيرا مع التطور الاجتماعي، كالطاهر بن عاشور صاحب تفسير quot;التحرير والتنويرquot; ، وكذلك محمد الفاضل بن عاشور الذي الّف مجلة الأحوال الشخصية.
كما ظهر فيها مصلحون من أمثال الطاهر الحداد. تلك السوابق كان لها الأثر الأكبر في تواصل نهج التغيير لمصلحة المرأة، وبالتالي المجتمع ككل، ومنذ العام 1956، أي قبل الإستقلال، صدرت مجلة الأحوال الشخصية، التي منعت تعدد الزوجات، والطلاق بإرادة الرجل المنفردة، وجعلته بيد القضاء حصراً. كذلك فقد اعترفت بحق المرأة في الإجهاض، وهذا ما يخدم أي توجه لتحديد النسل وخطط التنمية الإجتماعية. وغير ذلك كثير في مجال دعم التعليم ومجانيته، وتشجيع تشغيل النساء، بحيث تتراوح قواهنّ العاملة بين الربع والثلث على مستوى البلاد، حسب بعض التقديرات. إن كل هذه المكاسب لم تكن لتتحقق لولا الزعامة المستنيرة للحبيب بورقيبة، وإخلاصه ووطنيته، غير إن طول فترة حكمه وافتقاد البلاد الى معارضة حقيقية وتعددية حزبية فاعلة، أدى الى سهولة قفز بن علّي الى السلطة، ولا ينتقص مما تقدم من المكتسبات انها تواصلت في ظل حكمه الإستبدادي الفاسد، الذي قوضته انتفاضة الرابع عشر من يناير.
واليوم، وبعد فوز حركة النهضة الإسلامية في الإنتخابات، وحصولها على العدد الأكبر من المقاعد في المجلس التأسيسي (تسعين مقعداً من بين 217)، وبالنظر الى مرجعيتها الفكرية، كغيرها من الحركات الإسلامية الساعية الى تطبيق الشريعة حسب رؤية فقهاء السلف، وحساسيتها تجاه مظاهر الحداثة، اليوم تعبر الكثير من الأوساط الحريصة على تطور مسيرة الإصلاح في تونس، عن مخاوفها من نوايا الفائزين، وإمكاناتهم في توظيف الدين لمصالحهم السياسية. وكان زعيم النهضة راشد الغنوشي مدركاً لهذه المخاوف حين صرّح بعد الفوز بأن quot; تونس للجميع، حرة مستقلة .. تصان فيها حقوق الله ورسوله، وحقوق النساء والرجال، والمتديّن وغير المتديّن ..quot; بالإضافة الى ما أكده سابقا من أنه لا رجعة عن قيم الحداثة التي اعتمدتها تونس على عهد بورقيبة، وأكثر من ذلك قوله : quot;سندعم هذه القيمquot; . كما نقل عن الغنوشي تطمينات للغرب بأن حركته ستعمل على تثبيت الشراكة الإقتصادية مع أوروبا، وتنويع شركائها بالتوجه الى الأميركتين، فضلاً عن بلدان آسيا وأفريقيا . ويذكر في مصاف الأهمية إن حركة النهضة ضمّت في قائمتها الإنتخابية عدداً من النساء، من بينهن السيدة سعاد عبد الرحيم، وهي صيدلانية في السابعة والأربعين من عمرها، لا تضع غطاءً للرأس، وقد فازت في الإنتخابات ولعبت دورا فعّالاً في إقناع الناخبات والناخبين بأن النهضويين ليسوا ضد الحداثة. وينقل عنها تصريحاً لجريدة التايمز البريطانية، بأن ترشحها وفوزها يعني كل شيئ بالنسبة لطبيعة حزب النهضة، ورأيها بأنه لن يفرض الحجاب، وسيحترم التعددية في جميع المجالات. في هذا الشأن ترددت توقعات صحفية، لم تؤكدها النهضة، بأن هناك نيّة لترشيح هذه السيدة لرئاسة المجلس التأسيسي أو منصب رفيع آخر.
إن تأكيدات النهضة أو تطميناتها، وبشكل خاص ما يتعلق بالحداثة واحترام مكاسب النساء، تثير سؤالاً مهماً حول هويتها كحزب إسلامي، فما الفرق إذاً بينها وغيرها من الاحزاب ذات التوجه الحداثي؟ إلاّ إن هذا التساؤل وأسئلة أخرى لا تعني إن الإسلام غير قابل للتطور الإيجابي مع حركة المجتمع، وإنما تعني ما تعارفنا عليه من الأدبيات السياسية للأحزاب الإسلامية وممارساتها البعيدة والقريبة، التي لم تتغير بشكل جوهري على الرغم من الإنقسامات التي تعرض لها بعضها والتحديات الكثيرة التي واجهتها. كيف يمكن على سبيل المثال أن يقبل الإسلاميون بأحكام مجلة الاحوال الشخصية، التي تمنع تعدد الزوجات، ولا تجيز للزوج التطليق بإرادته المنفردة، وفي هذين الأمرين دارت سجالات حادة بين معظم الإسلاميين وأنصار حقوق المرأة، وكيف يقبلون بتجاوز قناعاتهم بتحريم الخمر، ويغضّون الطرف عن مسألة جعلها الإسلام السياسي وكأنها الدين نفسه، ألا وهي االحجاب أو غطاء الرأس، هل نحن أمام إسلاميين جدد؟ هم يقولون إنهم يتمثلون التجربة الإسلامية التركية، ولكن هذه التجربة مطوّقة بعلمانية الجيش الراسخة ودستور البلاد وإرث أتاتورك الذي أنهى عصر الخلافة، بينما هم يوشكون على حكم تونس وسيشكلون الطرف الأساس في صياغة دستور جديد لها.
والملاحظ إن تصريح الغنوشي بقبوله مبدأ علمانية الدولة، جاء مخالفاً لموقف سابق عبّر عنه كرد فعل على خطاب أردوغان أثناء زيارته لمصر، الذي اكّد فيه التزامه بالعلمانية، فقد علّق على آراء الرئيس التركي بالقول: quot;هو يعبر عن خصوصيات تركية، إذ حاول أردوغان أن يوفق بين تأكيده إنه إسلامي، وإدارته لدولة علمانية، ولا أعتقد إن المواطن المصري أو التونسي يجد نفسه معنياً بهذا التوفيق، لأن دولته - مصر أوتونس ndash; تعرّف نفسها بأنها دولة إسلامية quot; ( مقال لعادل الطريفي في جريدة الشرق الأوسط عدد 11999 بتاريخ 5 أكتوبر ، نقلاً عن حديث الغنوشي الى مجلة المجلة بتاريخ 3 أكتوبر 2011) . وإذا فهمنا من هذا القول معنى التمسك بالدستور فهل نستنتج إن تونس مقبلة على معركة لصياغة دستور، تتشبث النهضة خلالها لتضمينه نصوصاً يمكن الإحتجاج بها أمام مطالب العلمانيين والديمقراطيين في المستقبل؟ وإذا استطاعت على سبيل المثال أن تضمّن الدستور نصاً يفيد بأن quot;الإسلام دين الدولةquot; كما في مصر، فهل يمكن أن تترتب عليه مطالبات بتغيير القوانين؟
وبعد فإن تطمينات الغنوشي تشير الى أحد اتجاهين أما إن حركته ستلتزم بشروط العملية الديمقراطية، الى ما لا نهاية، وبالتالي فإن تغيّرا حقيقيا قد طرأ على فكرها، ما يجعلها خارج الأحزاب الإسلامية التقليدية، وأما إنها تؤجل مشروعها الفكري الذي قامت عليه الى حين أن تبلغ شوطاً معتبرا من التأثير في المجتمع، بحيث تضمن استقالة معارضيها تماماً.
وأنا اتمنى لو صحّ التوجه الأول، لأن الأحزاب الإسلامية تحتل مساحة كبيرة في المشهد السياسي العربي، ويمكن للنهضة أن تكون مثالاً لكثير من الإسلاميين وبخاصة الشباب.
إن مستقبل استقرار الحكم في تونس سيتوقف على مدى نجاح حركة النهضة في المضيّ بتعهداتها في الداخل والخارج، وتوافقها مع حزبي : تكتل المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي ضمّ أغلب أحزاب اليسار (30 مقعد) وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (21 مقعد)، على صلاحيات المناصب التي ستسند الى كل فريق، وتجري النهضة حالياً مشاورات مع هذين الحزبين بهدف تشكيل حكومة ائتلافية. وهنا أجد نصيحة وزير الخارجية الإيرانية الأسبق، إبراهيم يزدي، ذات مغزى، وتستحق الإصغاء، ففي معرض تهنئته بفوز الحركة، كتب في رسالته: quot;.. اتمنى أن لا تكرر النهضة أخطاء ثورتنا في إيران، وأن يحترم قادتها التعددية والديمقراطيةquot; وأضاف: quot;نحن أسقطنا الشاه لمعالجة سلوكه، ولكن نسينا أن نعالج سلوكنا وشخصيتنا الذاتيةquot;.
ويهمني التأكيد على إن الإستحقاقات الإنتخابية تفرض حقائق جديدة ومراجعات ضرورية لابد أن يأخذها المتنافسون مأخذ الجد، فلا يكفي أن يتحلى الديمقراطيون واليساريون بمأثرة اعتناق الحداثة، وأن يستغرقوا في نقاشات فكرية حول مقدرة الإسلاميين في الوصول الى تجمعات شعبية كبيرة، وكيفية صياغتهم لشعاراتهم بطريقة تتجاوب مع معتقدات الناس البسيطة، المهم دراسة تجربتهم في تقديم الخدمات لقطاعات واسعة من المحتاجين، والحديث بلغتهم، فهؤلاء هم الأكثر عدداً، وهم وقود العملية الإنتخابية، وليس نخب المثقفين والمتعلمين، بالطبع لا يمكن إغفال أهمية التمويل للأحزاب، فالرصيد المالي يلعب دورا كبيرا في النجاح، ولكن ليس دائماً.
الى هنا انتهي من القسم الأول لهذا المقال، على أن أعود في الثاني منه الى الموضوع الأساس في العنوان: (محنة اليساريين والديمقراطيين) وسأتطرق فيه الى رؤية خاصة، أعتقد إنها يمكن أن تساعد بإنهاض اليسار واستعادة شعبيته.
التعليقات