إبتداءً أستبق هذا المقال بالتنبيه الى أنني لم أستسغ يوماً نظاماً يستند الى فكر البعث، بجناحيه السوري، والعراقي البائد، ولا نسيت ما اقترفتاه عائلتي الأسد وصدام بحق السوريين والعراقيين، من مجازر وانتهاكات وسحق للكرامات. أنبه فقط لأني اعتدت من بعض القرّاء الأفاضل اجتزاءهم لمقالاتي والتوقف عند جمل معينة لا تعطي المعنى الكامل لما أريد بيانه.
منذ أحداث الثورة الليبية وحتى صدور قراري جامعة الدول العربية بتعليق عضوية سوريا ثم بمقاطعتها إقتصادياً، تبدو هذه المؤسسة العتيقة (1945) كما لو إن صحوةً أصابتها أو إنها انبثقت عن ولادة جديدة، ذلك إننا ببساطة لم نعتد منها مواقف قوية، وكانت سياستها تدور في فلك الشعار التقليدي القائل ب quot;عدم التدخل بالشؤون الداخليةquot;، مع استثناءات أملتها الظغوط الأميركية والأوروبية أو الخشية على الأمن الخاص، أفضت الى مشاركة رمزية لجيوش بعض دولها الأعضاء في التحالف الدولي (ثلاثين دولة) الذي قاد الهجوم ضد العراق في العام 1991، بهدف تحرير الكويت، وفي العام 2003 بتقديم بعض الدول العربية تسهيلات عسكرية لقوات الغزو الأميركي. ولا يحسب في هذا المجال تنادي الحكام العرب في العام 1948 إلى شن حرب ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، على إنه قرار إيجابي أو قوي، لكونه صدر عن حكومات كانت منقوصة الإستقلال ومتواطئة مع الداعمين لمشروع دولة إسرائيل، ولما رافق تلك الحرب من صفقات واتفاقات أدت الى التنازل عن أجزاء كبيرة من الأرض الفلسطينية، حتى تلك الواقعة ضمن القسم العربي، وفق قرار الأمم المتحدة التقسيمي في العام 1947.
أن تنتصر الجامعة العربية لثورة في هذا البلد العربي أو ذاك، أمر جديد تماماً، بالطبع أنا لا أقصد ما اتخذته دول منفردة من مواقف لدعم انقلابات او ثورات، مثال دعم مصر لثورة اليمن في العام 1961 أو مساندة الجزائر لجبهة البوليساريو الصحراوية ضد المغرب، أو مساندة اليمن الجنوبي السابق لثوار ظفار في عمان، مأريده هو توافق مجموع الدول العربية على قرار واحد بشأن انتفاضة أو ثورة. وباعتقادي إن مصدر الإلهام في قرارات الجامعة بشأن ليبيا وسوريا، يكمن في المرجعية الأوروبية والأميركية فقد كان إعلان المجلس الوزاري للجامعة عن دعوته الأمم المتحدة لفرض حظر جوي على ليبيا (12-03-11)، صدى للحراك الأوروبي (الفرنسي أساساً)، باتجاه التدخل الدولي بحجّة حماية المدنيين من بطش قوات القذافي، وفي هذا السياق جاءت تصريحات الأمين السابق للجامعة، الدكتور عمرو موسى ضد نظام العقيد، كاشفاً النقاب عن جرائمه كما لو أنها عرفت للمرة الأولى. وكذلك الأمر بالنسبة للنظام السوري، فإن اتفاق الدول العربية -عدا العراق ولبنان- على تعليق عضويته في الجامعة ومن ثم مقاطعته اقتصاديا، لا علاقة له برغبة في التضامن مع حق الشعب السوري في الثورة على حكامه، ولا يعكس اهتماماً حقيقيا بما عاناه من قهر وإذلال، وإنما هو تعبير عن الخشية من عواقب التحالف السوري الإيراني وامتداداته في لبنان وغزة، وتزايد نفوذ المخابرات الإيرانية في العراق، وتأثير كل ذلك على أمن بعض الدول العربية ذات الوزن في الجامعة، وعلى مصالح الغرب الإقتصادية بدرجة أكثر أهمية.
الجامعة العربية بلا شك كانت على علم بجرائم صدام حسين ضد الشعب العراقي واستخدامه للسلاح الكيمياوي في إبادة المواطنين الكرد في حلبجة، وبعد الغزو الأميركي لم تحرك ساكناً لنجدة العراقيين من بطش quot;العرب الأفغانquot; وعملياتهم الإرهابية، كما لم تبد اهتماماً بحملات الإبادة العنصرية في السودان، ضد أهالي دارفور، وكانت تعلم أيضاً بانتهاكات حقوق الإنسان في تونس، وتشهد ممارسات القتل اليومي في اليمن منذ اندلاع انتفاضته، ولم تبادر الجامعة بأي جهد لمعالجة التصادم بين حكومة البحرين ومعارضتها وما أسفر عنه من ضحايا، هي لم تتخذ قراراً ضد أي حاكم عربي مع وفرة الوقائع المأساوية الداعية للتدخل الإنساني، فكيف استفاقت أخيراًعلى جرائم الأسد الثاني مع إن في عهد سلفه الأب وقعت مجزرة حماة في الثمانينيات؟ ومثل هذا يقال عن مجازر العقيد الليبي وتصفيات سجونه ومقابره الجماعية، منذ سنوات طويلة.
لا ينبغي أن يفهم ما تقدم على أنه ضد التدخل الدولي لإسقاط الطغاة، فبعضهم يستعصي على الثوار مهما كانت جموعهم، لكن ما أرمي اليه هو ضرورة توفر معيار موضوعي في تعامل الجامعة مع الأنظمة العربية، معيار لا محاباة فيه ولا تردد، وإن حالت المصالح السياسية دون ذلك، فليجر الإعتراف بها بجدارة.
في مسألة تقييم العقوبات الإقتصادية ضد سوريا، نحتاج الى تذكر أحوال العراق في التسعينيات، حين قرر مجلس الأمن فرض الحصار الإقتصادي على نظام صدام، بعد تحرير الكويت، في حينه لم تكن الدول العربية متفقة على تأييد هذا القرار، بل رفضته الأردن ودول أخرى، كما هو الحال في موقف العراق ولبنان، بالنسبة لقرار الجامعة ضد سوريا، ماذا جناه العراقيون من قرار المقاطعة الدولي، أنهكت قواههم وقدرتهم على المقاومة، ونجح صدام في إفقارهم معيشياً وذهنياً ونشر الأمية بينهم، فأصبحوا أكثر طواعية ولا أبالية. العقوبات الإقتصادية تؤثر دائماً على الشعوب، تفقدها اعتزازها بإنسانيتها وتجعلها رهناً بإرادة الحاكم الذي يطعمها، فالعراقيون ذو البلد الثري تحولوا الى باحثين عن البطاقة التموينية، في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، الذي قررته الأمم المتحدة، وفي سنوات الحصار شيّد صدام ،أبهى قصوره، وزاد من غلظته واستبداده، وعمد المسؤولون الحكوميون الى تخزين الدواء ومنعه عن المرضى، ووقفوا يتفرجون على الأطفال وهم يلفظون أنفاسهم، كي ينظموا لهم مواكب الجنازات، ليقولوا للعالم هاهم شهداء الحصار، ليس أفضل من العقوبات سلاحاً بيد الأنظمة الدكتاتورية للإستفراد أكثر بمصائر شعوبها، ولم نشهد نظاماً أسقطته العقوبات، وهاهو ماثل أمامنا نظام كاسترو في كوبا، هل نجحت الولايات المتحدة بإسقاطه، هل حدّت من دكتاتوريته وصنميته، على الرغم من قسوة حصارها للجزيرة الإشتراكية؟
بالإضافة الى ذلك فإن العقوبات الإقتصادية ضد سوريا لن تكون مؤثرة، بسبب تحفظ العراق عليها، وإمكان إيران من تقديم المساعدة عبر الأراضي العراقية. وللعراق مبرراته في عدم قبوله بقرار العقوبات، فقد أشار وزير خارجيته هوشيار زيباري الى تأثيره السلبي على اقتصاد البلاد، فقد بلغ حجم التبادل التجاري مع سوريا - حسب معطيات رسمية - ملياري دولار في العام الماضي، ويحتمل أن يصل الى ثلاثة مليارات في نهاية هذا العام. كما أفاد المركز السوري للإحصاء بأن 52.5 بالمئة من صادرات سوريا تذهب الى الدول العربية، و31.4 بالمئة منها هي حصة العراق. وكانت العلاقات بين البلدين قد شهدت تحسنا ملحوظاً بعد فترة طويلة من التوتر بسبب تعاون النظام السوري مع الإرهابيين المتسللين الى العراق، وتم التوقيع في العام الماضي على مذكرة تفاهم حول مشروع لمد أنابيب النفط والغاز،عبر الأراضي السورية، على أن يبدأ الضخ في نهاية العام الحالي، كما اتفق الجانبان على إقامة مناطق تجارية حرة قرب حدوديهما، كل ذلك يؤثر بقرار حكومة العراق، ويجعل توصيات الجامعة العربية غير قابلة للتطبيق، حسب قول ممثل العراق في الجامعة العربية، قيس العزاوي. بطبيعة الحال لا ننسى الظغوط الإيرانية، لكنها حين تترافق مع مصلحة عراقية، تكون أخف وطأة، بخاصة مع واقع وجود مئتي ألف من اللاجئين العراقيين في سوريا، يمكن أن يتأثروا فيما لو ساير العراق قرار الجامعة.
إن موقف العراق تجاه سوريا تكتنفه صعوبات جمّة، فمع كل ما تقدم يبقى تهديد عودة الإرهاب المصدّر من سوريا، قائماً إذا ما وصل السلفيون الى الحكم في أي تغيير قد يحصل فيها، لأنهم كانوا المحرضين الأوائل عليه بدعوى الجهاد ضد القوات الأميركية، وتفيد بعض الأخبار المستقاة من دمشق، إن دعاة ينشطون في المساجد، يشحذون همم الشباب للتوجه الى العراق، لمواصلة ما بدأوه بعد العام 2003 من قتل وترويع للعراقيين. إن قيام أي نظام ذو خلفية سلفية أو إخوانية سيعرض العراق للإنتقام، سواء بدعوى عدم التضامن مع قرار الجامعة، أو بدعاوى طائفية قديمة. ولو إن العراق صادق على مقاطعة سوريا اقتصاديا فسيكون أيضا عرضة للإنتقام من النظام القائم وليس أسهل من شحن الإرهابيين مجدداً، أو استهداف اللاجئين العراقيين، ففي الحالين الخطر قائم. لكن العراق بإمكانه أن يستفيد من حاجة سوريا الملّحة الى مساندته، بأن يلعب دور الوسيط بين النظام السوري والمعارضة، وتكون فرصة لفتح حوار مع هذه المعارضة أو بعض أطرافها، الى جانب التحفظ على قرار الجامعة، لتوفير منفذ يتنفس من الشعب السوري خلال ضائقة الحصار العربي والدولي. إن حظ العراق في وساطة ناجحة ليس قليلاً، فالرئيسين الطالباني والمالكي وغيرهما من السياسيين ارتبطوا بعلاقات قوية مع النظام السوري، لما وفره من تسهيلات لتحركاتهم خلال سنوات معارضتهم لحكم صدّام حسين، كما إن السياسيين الكرد بشكل خاص يتواصلون مع القوى الكردية السورية، سواء منها المؤيدة للنظام أو المعارضة له.
وبعيدا عن الجوانب السياسية وما تفعله في لعبة المواقف، يبدو جديراً بالملاحظة الملمح العربي quot;الأصيلquot;، إنه مشهد تبعثر الذاكرة الجمعية، بالأمس كان الصوت الطاغي رافضاً للتدخل الأميركي في العراق، وجرت ماكنة الحديث عن عراقيين حملتهم الدبّابات الأميركية الى الحكم، وما رافق ذلك من صبّ اللعنات عليهم، واليوم تتواتر الدعوات لتدويل القضية السورية ونقلها الى مجلس الأمن ليصدر قراره بإنشاء منطقة الحظر الجوي في سوريا، تمهيدا لضرب الأهداف العسكرية للنظام الحاكم، على منوال ما جرى في ليبيا، إنه تداول الأيام، ولكن على الطريقة العربية، ووفقاً للشخصية العربية التي تعيش في ماضيها المأزوم وتظطر للتعامل مع كل منتجات الحضارة الغربية، بجسدها وليس بروحها.
كل ما أتمناه لجامعتنا العربية أن تؤصّل قراراتها، سواءً دعمت الثورات أو ناصرت الحكام، كي تكون أقرب الى إقناع الشارع العربي، وأن يكون لها دور إنساني وحقوقي، أكثر منه سياسي، فمجالات الإغاثة كثيرة، وليس من المقبول أن تنحصر مبادرات العمل الإنساني التطوعي والرسمي، بدول الغرب ومنظماتها الأهلية.
شخصياُ أنا متعاطفة مع انتفاضة الشعب السوري، على الرغم مما يشوبها من وجوه سلفية، لكني خائفة على مستقبل المجتمع السوري من أن تبتلعه الدعوات المتشنجة للعودة الى ماض ليس كله مبعث فخر، فضلاً عن انتقائيتها وانتزاعها للنصوص الدينية من سياقها التاريخي، أنا مشفقة على فنونها، مسرحها، نهضة نسائها، كل ما له صلة بالتطور الإيجابي، إنه زمن الحيرة بين المسير مع مجرى نهر الثورات المتدفق، وما يحمله من أحجار وحصى، تتزاحم على شاطئ الحرية المنشود، إنه الفيضان، قد يغرق المدائن العامرة، او تتقي شره صلابة السدود، وتذخر مياهه لري صحارى الظلم الذي كان.