سبق أن كتبت في إيلاف أربعة مقالات عن معسكر أشرف، وعلى فترات متباعدة، وخلال الثلاثة أشهر الماضية، نشر الموقع الكثير من المقالات التي اتسمت بنبرة أقلّ حدة تجاه الحكومة العراقية، وطغى على مجملها خطاب المناشدة للهيئات الدولية والولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي، كي يمارسوا مجتمعين الضغط باتجاه منع الحكومة العراقية من تنفيذ قرارها بإغلاق المعسكر في نهاية هذا العام، وترحيل سكانه الى مناطق أخرى من العراق، بعيداً عن الحدود مع إيران. من بين الأفكار التي عبرت عنها تلك الكتابات، ما لخصه سيد أحمد غزالي، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق، رئيس اللجنة العربية الإسلامية للدفاع عن أشرف، ومفادها إن سكان معسكر أشرف طالبو لجوء، استناداً الى ما أعلنته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وإن الإتحاد الأوروبي عرض خطة لنقل الأشرفيين (3400 نساءً ورجالاً) الى دول تقبلهم كلاجئين. ويترتب على ذلك وجوب إن ترضخ السلطة في العراق وتقبل بقاء مجاهدي خلق في معسكرهم، الى أجل غير مسمى، ريثما تنتهي إجراءات لجوئهم، منفردين وليس بعددهم الكلّي، وإن الحكومة العراقية بما إنها لم تستجب لهذه المعطيات وتقبل طلب اللجوء المتأخر أكثر من خمسة وعشرين عاماً، فإنها غير حسنة النيّة، وإنها متواطئة مع النظام الإيراني لتصفية مجاهدي خلق. ولا يعير السيد غزالي أي أهمية لما تضمنته رسالة الخارجية العراقية الى البرلمان الأوروبي، التي بينت حساسية موقع المعسكر قريباً من الحدود الإيرانية، ورغبة الحكومة في تفادي الإشكالات مع إيران وتقليل الظغوط عليها بنقل المعسكر الى مواقع أخرى، معتبراً مع جميع من دافعوا عن أشرف، أن ليس لحكومة العراق هذا الحق، وإن مجرد نقل سكانه يعني البدء بالقضاء عليهم، وإن كل ما تقوله عن تورطهم في التدخل بشؤونها الداخلية، والإتصال بالمعارضة، ووجود دعاوى قضائية ضد البعض منهم، ما هو إلا محض أكاذيب.
وقد دعت الكتابات المشار اليها الى quot;استنهاض الضمير العالمي قبل أن يستيقظ بفعل صدمة أو كارثة إنسانية يصاب بها العالم الحرquot;، مؤكدة بما لا يقبل الشك إن السلطات العراقية ستقدم على quot;مذبحةquot; ضد الأشرفيين أثناء نقلهم، أو تسلمهم إلى إيران!! وفي هذا السياق جاء مؤتمر باريس لمؤازرة مجاهدي خلق، الذي انتظم في العاشر من ديسمبر الحالي. وقد حضره مسؤولون سابقون من الولايات المتحدة ودول أوروبية، بالإضافة الى السيد غزالي من الجزائر. ومما قيل في ذلك الجمع، وأشدّه ما جرى على لسان جفري رابرتسون، القاضي ومستشار ملكة بريطانيا، سابقاً، فقد طالب السلطات الأميركية باعتقال السيد المالكي، بدل استقباله من قبل الرئيس أوباما، وعلى منواله نسج ميشيل رايس، السفير في الخارجية الأميركية، قائلاً: إذا كنا أستجبنا لبنغازي فلماذا لا نستجيب لأشرف!! أما عضو الكونغرس الأميركي باتريك كنيدي، فقد انتزع قضية أشرف من سياقها السياسي، معتبراً إنها لا تخص العراق وإيران، بل تتعلق بحقوق الإنسان، ووصف رئيس الوزراء العراقي بأنه كذّاب، وأشار على الرئيس أوباما بأن لا يسمح له بالكذب مجدداً. كما اعتبر إن الإصرار على ترحيل الأشرفيين، مخجل لأميركا. وقال كبير العاملين في البيت الأبيض، سابقاً، آندرو كارد، إنه سيصلي من أجل أن لايصمت رئيسه عندما يلتقي السيد المالكي، وأن يحذره من نتائج عدم الإلتزام بما تعهدت به قيادة الإحتلال الأميركي من حماية الأشرفيين، وأشار الى إن القضاء الأميركي برأ منظمة خلق من تهمة الإرهاب. وبدا الجنرال ديفيد فيليبس أكثر من متأكد بأن الأشرفيين لم يقترفوا أي عمل من شأنه إبقاءهم في دائرة الإرهاب
وأنا وإن كنت ككثير من العراقيات والعراقيين غير راضية عن أداء الحكومة العراقية، وأقرّ بما يشوب عملها من فساد ومحسوبية وحزبية، وعلى الرغم من واقع الظغوط الإيرانية المسلطة عليها، في مجالات عدة، فإني أجد إن قرارها وإصرارها على إغلاق معسكر أشرف له ما يبرره، على مستوى السياسة الداخلية العراقية، وهنا أستعين بمقال الدكتور سنابرق زاهدي، رئيس لجنة القضاء في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، الذي نشر في موقع إيلاف، لمساعدتي في هذا التبرير، لما تضمنه من معلومات مهمة، تلقي الضوء على نشاط الأشرفيين في معسكرهم، خلال السنوات مابين 2004 الى 2009، فهو يتحدث عنهم كما لو كانوا إحدى المكونات السياسية العراقية، فيقول: quot; إن وجود مجاهدي خلق بجانب القوى الوطنية العراقية، يصون كرامة العراق وسيادته أمام مساعي إيران لنيل هذه السيادة وإحكام سيطرتها على العراقquot;، ونقل عن بيان وقعه خمسة ملايين ومائتي ألف عراقي - حسب قوله- بأن سكان أشرف ما يزالون يشكلون quot;الرقم الأصعب في موازنة القوى في العراقquot; لصالح الشعب العراقي. ويضيف زاهدي بأن أشرف كان محطاً quot; لآلاف العراقيين للإحتفال بالمناسبات الوطنية والدينية quot; وإن خمسين ألف منهم اجتمعوا فيه مرة لإحياء المولد النبويquot;، بالإضافة الى ذلك يوضح محامي مجاهدي خلق، وبنبرة أكيدة مدى صلة هؤلاء بالمعارضة، فيقول: quot; خطة إخلاء أشرف ليست عراقية، بل إيرانية لأن العراقيين بالملايين من جميع الأديان والأعراق والقيادات السياسية والحزبية بكل أطيافها، ورؤساء العشائر والقبائل من كل أنحاء العراق، ورجال الثقافة والقانون، أعلنوا مئات المرات بأنهم مع مجاهدي خلق ومع بقائهم في العراق..quot;. ماذا نفهم من كل ماتقدم، إنه يحاول أن يصور العراق بأسره كما لو كان جيشاً مؤازراً لمجاهدي أشرف، وليس مجموعات من السياسيين البعثيين ومحازبيهم من شيوخ عشائر تضررت مصالحهم بسقوط صدام حسين، فوجدوا في دعم quot;خلقquot; وسيلة لرفع أصواتهم ضد الحكومة في الداخل، والإنتقال إلى الخارج عبر المشاركة في الملتقيات الأوروبية التي نظمها المدافعون عن أشرف، ليقولوا للعالم إن البعثيين دعاة لحقوق الإنسان، وإنهم مازالوا مؤثرين في الحياة السياسية، وما دام التوتر قائماً بين الغرب وإيران، فإن أمامهم فرصة ثمينة لتقديم أنفسهم كبديل للسلطة في العراق، عن طريق التظاهر بالتعاطف مع مجاهدي خلق.
إذاً القضية ليست بالحجم الذي يصفه السيد زاهدي، ولي أن أتساءل عما عناه بمصطلح quot;القوى الوطنيةquot; وكيف له أن يضفي معاني الوطنية على مؤيدي جماعته فقط، بالطبع فإنه لا أحد يقبل منطقه بأن كل العراقيين يصطفون وراء quot;خلقquot;، إن حديثه لا يترك مجالاً للشك بأن هذه المنظمة تعتبر أنصارها في أشرف عراقيين ومن حقهم أن يتدخلوا بكل التفاصيل السياسية، وإلا فكيف تسنى لهم أن يتوصلوا لتلك الملايين التي تحدثوا عنها وكسبوا تأييدها، هذا إذا جاريناهم فيما يقولون، وإن كانت حقائق الجغرافية، وتاريخ العلاقة بينهم ومعظم العراقيين، والحالة الأمنية غير المستتبة تجعل من المستحيل أن يجتمع هذا العدد الغفير لدعم قضية ليست أساسية، ولا يبدو أن للعراق مصلحة فيها، فبقاء المجاهدين على مقربة من الحدود مع إيران، ومنحهم حرية التحرك، هو مدعاة لحرب جديدة مع إيران.
ومما يلفت الإنتباه في مقال محامي المجاهدين، إستشهاده بمقاطع من كتاب الإمام علّي الى عامله في مصر، مالك الأشتر، فقد أشار الى النص الذي يتعلق بوصاياه بالرحمة والمحبة واللطف بالشعب المصري، وأن يتجنب الظلم، واصفاً رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بأنه يعارض وصايا الإمام ويتعامل مع مجاهدي أشرف ك quot;السبع الضاريquot;، ثم إنه يشير الى نص آخر من الكتاب يتضمن الدعوة على من يظلمون عباد الله، ويعتبر ذلك موجهاً الى المالكي بوصفه ظالماً. وللسيد زاهدي أن يقول ما يشاء، لكني أدعوه الى الرجوع الى عهد الإمام للأشتر بجملته، للإفادة وتكوين صورة متكاملة عما يجب ان يكون التعامل مع قضية أشرف، فقد نصح علّي واليه على مصر بأن يهتم بعامة الناس أكثر من الخاصة، ولنا أن نعتبر سكان أشرف - كما يريدون - من خاصة الشعب العراقي، لما لهم من وضع خاص واستثنائي، يقول الإمام : quot;وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقلّ معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف.. من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم...quot;، إذا ليس للمالكي أن يفضل رغبة المجاهدين على مطالب معظم العراقيين، أما الخمسة ملايين من العراقيين حسب احصائيات quot;خلقquot; فهم مهما كثروا، قلّة بالنسبة للملايين الأخرى التي تعارض ذلك. وبما أن الحكومة العراقية تشير الى تورط الأشرفيين بمساعدة نظام صدام حسين، لقمع انتفاضة أغلب مدن العراق في العام 1991، ولوجود معطيات تؤيد هذا الطرح من خلال العلاقة الوثيقة التي ربطت بين قادة مجاهدي أشرف والنظام السابق، ولما أوضحه السيد زاهدي من تدخل الأشرفيين في السياسة العراقية، فإنني أحيله الى نص آخر من كتاب الإمام الى الأشتر quot;.. ولا يكونن المحسن والمسيئ عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلاً منهم بما ألزم نفسه.. quot; وهذا القول يعني الكثير بالنسبة لظروف العراق، فالتساهل مع quot;خلقquot; يغري معارضات اقليمية أخرى لاستعمال أراضيه ضد حكوماتها، ومازال المواطنون الكرد يعانون من هجمات الجيش التركي بين الحين والحين، بحجة مطاردة أتباع أوجلان. لذلك من الأفضل لمجاهدي خلق أن يراجعوا سجلّهم في العراق قبل ان يدعوا على المالكي، فالأهم إصلاح الخطأ وليس صبّ اللعنات على الغير.
إن المشترك بين كل من دافعوا عن بقاء الأشرفيين في موقعهم، غير البعيد عن العاصمة بغداد، هو كون معسكر أشرف كما يقولون quot;عنوان المقاومة ضد النظام الإيرانيquot; بشكل عام، وبشكل خاص ضده في الداخل العراقي، ماذا نستنتج من هذا غير الدعوة لتأزيم الوضع مع حكام طهران، هل فكر هؤلاء بقدرات الحكومة العراقية على المواجهة مع جارة قوية تمتلك مقومات ظغط عديدة، هل يمكن مثلاً لمجاهدي خلق أن يزودوا جنوب العراق بالماء حين تحبس إيران روافد الأنهار؟ هل بإمكانهم أن يمنعوها من تسليح الميليشيات، وإيقاف نشاطات مخابراتها، والتصدي لها إن أرادت االسطو على آبار النفط العراقية، ولو فرضنا جدلاً إن حكومة جديدة مناصرة لمنظمة quot;خلقquot; قررت الاستعانة بها، اليست هذه بداية لاستعداء مكشوف لإيران يتبعه احتلال إيراني، في ظروف رحيل القوات الأميركية، وعدم إمكان الولايات المتحدة خوض حرب جديدة؟
لقد دفع العراقيون ثمناً باهضا في حرب الثماني سنوات مع إيران، وقبل صدام حسين بالتضحية بدماء العراقيين، نيابة عن الولايات المتحدة ودول الغرب، لصدّ التيار الخميني الذي اجتاح بلاد العرب الوثيقة الصلة بمصالحهم، ولا ينبغي أن تتكرر المأساة لأي سبب من الأسباب. أنا أفهم وأقدّر طموح مجاهدي خلق لإسقاط حكام إيران، وأعلم جيداً ما يعنيه نظام يقوده رجال دين مدججون بالسلاح ويحكمون باسم الإله، وأتعاطف مع نساء أيران وشجاعتهن في التصدي لوصاية الحاكمين، وثورتهن ضد تعاليم متعسفة تنكر عليهن حقوقاً إنسانية بسيطة، أعلم مايعنيه نظام يفرض رؤيته الدينية على الشابات والشباب ويقيم الجدران العالية بينهم، ويفترض الفجور في تطلعاتهم البريئة والصافية، ولكن كل ذلك أمر خاص بالشعب الإيراني، وأي معارضة ينبغي أن يكون تحركها على أرضها وأن لا تتسبب بإيذاء الآخرين.
وفي الختام لابد من طرح اسئلة مهمة تلقي بعض الضوء على إشكالية أشرف:
لماذا لم يمنح صدام مجاهدي أشرف صفة اللاجئين السياسيين، على الرغم من صلته الوثيقة بهم؟
لماذا لم يبادر دعاة حقوق الإنسان من المسؤولين الأميركيين السابقين، الى تقديم المقترحات لحل مشكلة أشرف بعد العام 2003، وظلوا ساكتين على خطط حكومتهم لتوظيف مجاهدي خلق ضد إيران، غير آبهين بمستقبلهم؟ لماذا لم يمنع الجنرال ديفيد فيليبس، مجاهدي أشرف من الإتصال بالمعارضين العراقيين، أثناء وجوده في المسؤولية عن أمنهم خلال السنوات 2003 و 2005 و2008؟ ولماذا لم يكن هؤلاء الدعاة حريصين على حقوق الإنسان العراقي، وينبهوا الإدارة الأميركية الى مخاطر تقويض الدولة العراقية ونهبها وتشجيع المسؤولين الجدد على الفساد؟ لماذا لم يطلبوا من حكومتهم الإعتذار لشعب العراق على ما اقترفته القوات الأميركية من جرائم بحقه في حربي العام 1991 و2003، وقبل ذلك مؤازرتها لنظام صدام وسكوتها عن مذابحه؟ إن حقوق الإنسان لا تتجزأ وغير قابلة للإنتقاء السياسي.
كيف يمكن للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن تعتبر الأشرفيين طالبي لجوء دون موافقة الحكومة العراقية؟ وهل يمكن تقديم مثل هذا الطلب بعد استقرارهم لأكثر من ربع قرن، دون أن يكون للأمم المتحدة سجلات باسمائهم، كما هو الحال في حالات اللجوء؟ أولم تشرع الحكومة البريطانية، مثلاً، قانونا يلزم طالب اللجوء بتقديم طلبه حال وصوله الى أراضيها؟
كيف يمكن لحكومة العراق أن تقبلهم وهم ينصبون من أنفسهم خصماً لها ويتعاطون السياسة في العمق، ويقيمون الصلات مع المعارضة، ويرفضون الخضوع للقوانين العراقية؟
لماذا هذا الإصرار على إن السلطة في العراق سترتكب مذبحة بحق الأشرفيين، طالما هم ملتزمون بعدم المبادرة الى العنف، وتنفيذ ما يطلب منهم، إسوة بكل اللاجئين في العالم، الذين يلتزمون بقوانين بلدان اللجوء؟
أنا لا اعتقد بأن القوات العراقية ستقدم على أي عمل عنيف أثناء ترحيل مجاهدي أشرف، إلا إذا بادرو هم باستفزازها، ولكن من الطبيعي إذا كان القضاء العراقي ينظر في دعاوى مرفوعة ضد بعضهم، أن تجري مساءلتهم وتطبيق القانون عليهم.