في عراق اليوم والأمس القريب، سيطر هاجس الخوف من التفجيرات عند كل خلاف يعتري العملية السياسية التي صارت تعرف بالتوافق، وتجمع من المتعارضين ما تعجز أعتى الديمقراطيات عن مدّ الجسور بينهم، فالكل يذكر العواصف التي أطاحت بالقليل من الأمن الذي تحقق في الفترة السابقة على إعلان نتائج الإنتخابات الأخيرة في العام الماضي، ونذكر أيضاً السجال القاتل بين السيد المالكي والدكتور علاوي، فالأول أصّر على أحقيته في تشكيل الوزارة، لكونه الوحيد الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات لشخصه، ولدفعه بأن زيادة أصوات القائمة العراقية، الطفيفة على قائمته كان بسبب التلاعب. أما الثاني فقد تمسك بالنتائج المعلنة للقوائم الفائزة، وكان مطمئناً الى ما حظي به من دعم عربي غير مسبوق، وللكم الفائض من الدعاية، التي صورت مستقبل العراق في ظله واحة من الرخاء والأمن. وقد علمنا بأن المالكي تمكن من حسم الأمور لصالحه عبر تحالفات وتنازلات، فبات علاوي من الخاسرين، والنتيجة كانت اشتعال الشارع وتحرك آلة التفجير والغدر بكل اتجاه، لتطال الأبرياء، وتكتب النجاة لمحترفي السياسة. لقد آلت المسيرة الإنتخابية الى نوع من التوافق الممجوج القائم على حفظ المصالح غير المشروعة لطائفة من السياسيين، توافق يحتّم على المواطنين أن يصلّوا من أجل أن لاينفذ صبر الطامحين الى السلطة بأي ثمن، وأن لا تتحول إراداتهم الغاضبة الى مفخخات عابرة لدروب البائسين. الهواجس تجددت فور الإعلان عن تورط نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بقضايا إرهاب وصدور مذكرة قضائية بتوقيفه، وزاد الخوف حين حزم حقائبه وتوجه الى كردستان، ترافق ذلك مع مطالبة رئيس الوزراء بسحب الثقة عن نائبه صالح المطلق، لأنه وصفه بالدكتاتور، ولم يطل الأمر بالأزمة حتى تفجرت مناطق في بغداد، لتكون صدى لاحتجاج الهاشمي على زج اسمه في عمليات الإرهاب، وليوجه من ناحيته تهمة التفجير الى الحكومة، وليدعي بأنه خائف على مصير المواطنين السنّة!!
غريب مشهد السياسة في العراق، فبعد ترحيب رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني بالنائب المتهم، ورفض تسليمه الى القضاء المركزي، أصدر مكتب الرئيس جلال الطالباني بياناً أكّد فيه على إن quot;الأستاذ الهاشميquot; موجود في ضيافة الرئيس وإن سيادته حريص على أن يتم التعامل مع ضيفه وفق الإطار الدستوري، واستقلالية القضاء quot;بعيدا عن الضغوط والتشكيك والتدخلاتquot;، مشيراً الى إن الهاشمي سيمثل أمام القضاء في أي مكان من البلاد، يتوفر فيه quot;الإطمئنان الى سير العدالة والتحقيق والمحاكمةquot;. أقوال لا تعليق عليها من الناحية الموضوعية، لكني لا أستطيع أن أفهمها إلا بكونها صادرة عن دولة مجاورة، وليس عن إقليم داخل الدولة، مرتبط باتحاد والتزامات قانونية ومصير مشترك، مهما كان الإختلاف في واقع الحال، يؤيد ذلك ما قاله البارزاني بأنه لن يتدخل إذا ما اتخذت الخلافات السياسية طابع صراع مذهبي، فهو يتدخل بشكل انتقائي، وحين تسوء الأمور ينأى بنفسه. ولي هنا إن أسأل هل إن البارزاني والطالباني يلتزمان حقاً باستضافة المتهمين بقضايا الإرهاب إذا ما تعلق الأمر بكردستان، وهل يمكن أن يتعاملا بهذا القدر من الأريحية والتسامح مع متهم باستهدافهما شخصياً، كما هو الحال في العلاقة بين المالكي والهاشمي، وهل يلتزما حقا بالدستور في سياستهما العامة، والخاصة في الإقليم، وهل يعبر أداء الطالباني عن كونه رئيساً لكل العراق؟ كثير من الإسئلة في ذمة التجاهل ولعبة السياسة والضغط لتحصيل كمّ أكبر من المكاسب للإقليم على حساب المركز، ولعلها فرصة لن تتكرر، في ظروف الإنسحاب الأميركي والسعي الحثيث لبعض تشكيلات حزب البعث للإنقضاض على السلطة. لقد نسي السيد الطالباني عنصرية الهاشمي ورفضه مبدأ رئاسة كردي لدولة أغلب سكانها من العرب ومكونات أخرى، وانحيازه لماضيه البعثي، كما نسي الرئيس سابقاً جرائم البعث تجاه الشعب الكردي، وهذا ليس غريباً على براغماتيته العبثية والمكشوفة حين رفض توقيع قرار إعدام صدّام. إن لعبة الساسة الكرد في قمة السلطة لاتخدم مستقبل كردستان، بل تغامر بكل ما تحقق من ازدهار وتميز للإقليم، فالهاشمي والمطلق وما يمثلانه من فكر وممارسة، هما أبعد ما يكونا عن الإيمان بحق تقرير المصير للكرد بشكل عام، وبحقهم في دولة فيدرالية.
وفي حساب المواقف المهمة من عاصفة المالكي والهاشمي، يبرز موقف المرجع السيد علي السيستاني، فقد سخر وكيله أحمد الصافي من المسؤولين الذين استنكروا تفجيرات الخميس الماضي، بينما واجبهم هو الحيلولة دون حصولها، وانتقد السياسيين بعامة، كونهم يصّرحون برفض تدخل دول في شؤون العراق، في الوقت الذي يأخذ بعضهم التوجيهات منها، وتحدث الصافي عن نهب الثروات وإيداعها في دول الجوار. لقد عبر الصافي عن حرص السيستاني على أرواح الناس والمال العام ، وهنا لابد من توجيه التماس الى المرجعية بأن تنصح المواطنين بأن لا يتوجهوا بآلافهم أو ملايينهم الى كربلاء لتأدية زيارة الأربعين لحضرة الإمام الحسين، فمثل هذه الزيارات تستنزف أموالاً، الناس في أمسّ الحاجة لها ، وتعرّض حياة المواطنين للخطر، فهم صيد ثمين للإرهابيين والطائفيين، وصوت المرجعية مسموع في هذه الحالة، وليس كالمسؤولين الذين يعرضون عن نصائحها السياسية. ومن منطق الحرص أيضاً ولكن باتجاه معاكس، نستذكر دور المرجعية في التعجيل بالإنتخابات بعد فترة قليلة من خروج العراق من حرب مدمّرة وتهديم أسس الدولة وافتقاد المتطلبات اللازمة لبدء مسار انتخابي صحيح. إن هذه الإنتقادات لا تشفع للمرجعية في مسؤوليتها عن العملية السياسية المريضة والملغومة بعناصر إرهابية متعددة المشارب والولاءات، فهي عوّلت على الإنتخابات لإقامة حكم الأحزاب الدينية، لكنها أغفلت إن بعضها مرتبط بمرجعيات دينية أخرى تسعى للحلول محلها. إن صحوتها متأخرة واتمنى أن أكون مخطئة.
والآن يبدو العراقيون في حيرة من أمرهم، فقدرهم أن يختاروا بين علاوي والمالكي، الأول ما زال أسير نشأته البعثية، المعاصرة لبدايات صدام، فقد كان قريباً منه، وإن اعترى علاقتهما بعض الشروخ العائدة الى نزعة التسلط، بعيداً عن أي إطار مبدأي، والثاني حاكم حاز بعض النجاح في سعيه لبسط سلطة القانون، في رئاسته الأولى، لكنه أدمن لعبة الحكم في ولايته الثانية، وساوم على بعض قناعاته، فاجتزأ تطبيق القانون، المالكي لم يستطع أن ينفصل عن نشأته في حزب الدعوة، كما لا يملك الإنفكاك عن حلفاء إيران من بين شركائه في الحكم، هو يبدو أحياناً كما لو إنه ما زال في المعارضة، لكنه يتحول الى صاحب قرار قوي حين يقول إنه قد يتوجه الى حكومة أغلبية، إذا ما أصّرت القائمة العراقية وقاعدتها الأساسية من البعثيين، على مقاطعة الحكومة والبرلمان، والحق إن ما يعنيه من حكومة أغلبية، على مساوئها الكثيرة وصبغتها الدينية، هي أفضل من شراكة مهزوزة تعبث بها الأعاصير، في الأقل ستستطيع تقديم الخدمات للناس وتوفير الأمن.
قدرنا في ظل عدم وجود أرضية سياسية صالحة، وأحزاب بعيدة عن التوجه الديني، ذات قدرة على التأثير، وتمتلك برامج حقيقية للإصلاح، أن نختار بين المالكي وعلاوي، فإن لم يكونا يصبح لهما بديلان بالمواصفات نفسها. ويبقى الناس يتساءلون: هل سيتحالف قادة الكرد مع الثلاثي علاوي والهاشمي والمطلق، لترجيح كفّة مطالبهم وإعلاء سقفها، ما يحسّن من موقفهم التفاوضي مع حكومة المالكي، في جميع القضايا العالقة، كالمناطق المتنازع عليها بين المركز الإقليم، وعقود النفط، وعائدية مدينة كركوك .. الخ؟ ويتساءلون أيضاً عن التاريخ المستعاد في ساحة المنافسة بين ورثة الخلافة العثمانية وآيات الحكم في إيران، أي ظلم يمكن أن يحلّ بالشيعة أكثر من أن تدعي تمثيلهم أحزاب تتهافت على المصالح الخاصة، وجماعات بعضها غير بعيد عن الإرهاب، وأي إساءة تلحق بالسّنة، أكبر من أن يتنادى بعثيون وإرهابيون للحديث باسمهم؟ ويتساءل المسيحيون والصابئيون عن مستقبلهم خلف الظل الثقيل لرايات التشدد ودعاوى الفتوح، وللنساء وهنّ بمعاناتهن وعددهن الغالب، أسئلة كثيرة في زمن التشدد وافتقاد الإيمان الراشد، في زمن ضعف المحبة واجتياح داء الكراهية، والأنا المتضخمة في النفوس. آه ياعراق كم من الأحلام ضاعت، وكم تحتاج من السنين لعودة الروح، واستعادة الأمل.