حين يبدأ يوم التاسع والعشرين من هذا الشهر، يكون عمر القمة العربية قد بلغ السادسة والستين عاماً، ففي العام 1946 شهدت مدينة أنشاص المصرية أول مؤتمراتها، ومنها أطلق القادة العرب إعلانهم بأن فلسطين تهمهم جميعاً وإنهم يرفضون الهجرات اليهودية اليها. بعد عشر سنوات استقبلت بيروت قمة ثانية في العام 1956، وكانت للتعبير عن التضامن مع مصر في مواجهتها للعدوان الثلاثي، ولتأييد حق الشعب الجزائري في مطلب الإستقلال عن فرنسا. منذ ذلك التاريخ شهدت عواصم ومدن عربية ما يقرب من اثني وثلاثين مؤتمراً، عادياً واستثنائياً.
وعادة، تسلك القمم العربية طريق التضامن العربي، وتدعو الى التلاحم ووحدة الرأي، في محاولة لصرف الإنطباع العالمي عن ضعف العرب وتشتت مواقفهم، أما الواقع فيؤشر الى إن اجتماعات القادة تعكس اضطراراً مع الكراهة، لتحكّم الخلافات فيما بينهم، ولافتقادهم لإمكانات الحسم في الأمور المهمة. ويرد في هذا المجال استثناءان متعارضان، الأول هو مؤتمر قمة القاهرة في العام 1970،الذي دعا اليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واستطاع بجهد متميّز أن يقنع الراحلين، الملك حسين وياسر عرفات، بأن يتصالحا وينهيا المواجهات الدامية بين قواتهما. وربما أراد عبد الناصر، من خلال تحركه الجاد لإنقاذ الفلسطينيين، معالجة بعض آثام السياسة التي قادت الى هزيمة حزيران، والتي لو لم تكن لما واجه الفلسطينيون ذلك الهجوم الساحق من القوات الأردنية، وما هيأ لنجاح مهمة المصالحة، زيادة قوة مصر بسبب جدية قيادتها في حرب الإستنزاف ضد إسرائيل، التي كانت بحق القاعدة الأساسية لتمكن القوات المصرية من إحراز نصر باهر في بداية حرب أكتوبر. ويرى الكثير من الدارسين للحروب العربية الإسرائيلية، إن حرب الإستنزاف كانت أول حرب حقيقية، لم تشوبها خيانة أو إهمال، خاضها الجيش المصري منذ بداية شهر تموز- يوليو من العام 1967،بقيادة رئيس الأركان الشهيد عبد المنعم رياض، واستمرت ثلاث سنوات، لتنتهي بقبول مصر بمبادرة روجرز.
الإستثناء الثاني هو مؤتمر القمة في العام 1976، الذي تابع تنفيذ الأتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية، والجيش اللبناني، الذي وقع في القاهرة أواخر العام 1969. في هذا المؤتمر اتفق الحكام العرب على تشكيل قوات ردع عربية للعمل في لبنان، بعد اشتعال الحرب فيها في العام 1975، شاركت في هذه القوات كل من السعودية واليمن الجنوبي والسودان والإمارات ولبنان، بشكل رمزي، بينما كانت المشاركة السورية هي الأساس. حينذاك باركت الجامعة العربية الإحتلال السوري للبنان، لأن القوات العربية من الدول الخمس انسحبت وبقي الجيش السوري حتى العام 2005. نجد إذاً في قمة القاهرة 76 بداية لتدمير بلد صغير، وتحويله الى ورقة للمساومات السورية مع إسرائيل، فالوجود السوري أريد منه حماية إسرائيل في السبعينيات، ثم إدامة حالة الحرب معها باسم المقاومة.
وبشكل عام لم نشهد قمة عربية رتّبت وقائع على الأرض، كأن أسهمت في تدارك حرب، أو إيقافها، أو فضّ نزاع، كما لم تحقق القمم مجتمعة حلم السوق العربية المشتركة، ولا أي تطور ذي شأن في العلاقات الإقتصادية والإجتماعية. أما ما تحقق من نجاح في إطار مجلس التعاون الخليجي، فلا علاقة له بالقمم العربية، وهو يتبع منطق التكتلات المرتبطة بمصالح محدودة لا تشمل الكل العربي، علما بأن هذا الكل المنظور اليه من نافذة التاريخ المنقول والمبسط، لا ينسجم مع واقع الإختلاف الكبير بين البلدان العربية، من ناحية الثروات والتوجهات السياسية، والتقاليد الإجتماعية، بل حتى اللهجات المحلية.
ويمكن إجمال ما خرجت به اجتماعات القادة العرب، في مجموعة قرارات، نفذ بعضها، ولم ينفذ معظمها، منها:
إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية (1964- القاهرة).
قرارات اللاءات الثلاث: لاصلح، لا اعتراف، لا تفاوض (1967- الخرطوم).
اعتبار منظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني (1974- الرباط).
إنشاء قوة الردع العربية في لبنان (1976- القاهرة).
رفض اتفاقية كمب ديفيد وتعليق عضوية مصر في الجامعة العربية، ونقل مقر الجامعة الى تونس (1978- بغداد).
عودة مصر الى الجامعة العربية (1989- عمّان).
إقرار مبادرة سعودية للسلام مع إسرائيل.
الرفض المطلق لضرب العراق، والإمتناع عن المشاركة في أي عدوان عليه، واستنكار محاولات فرض التغيير على دول المنطقة، واعتبار إن تهديد العراق يمس بالأمن القومي العربي. الى جانب هذه اللغة الإنشائية، خلا البيان الختامي لمؤتمر قمة شرم الشيخ، الذي عقد في 29-02-2003، من أهم ما ورد في اجتماعات القادة العرب، وأقصد مناشدة الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيان، صدّام حسين للتنحي عن السلطة، مع ضمانات عربية ودولية،بعدم محاكمته، وذلك حرصاً على العراق ولتلافي حرب وشيكة عليه.
حديث عن وحدة العراق وسيادته وإنهاء الإحتلال، دون أي مبادرات لمساعدة شعبه، وتردد في بحث ملفات الإصلاح (2004- تونس).
رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين، والتمسك بقرار الأمم المتحدة رقم 194، الخاص بعودتهم الى فلسطين، الذي صدر في العام 1948 وترفض إسرائيل تطبيقه. علماً بأن رفض التوطين لم يصحبه أي جهد لمساعدة اللاجئين (2005- الجزائر).
إحترام سيادة العراق وعدم التدخل في شؤونه، ولكن دون تبني سياسة من شأنها تقليل التدخلات الإقليمية كافة، بالإضافة الى الإمتناع عن تقديم المساعدة للعراق في حربه ضد الإرهاب (2006-الخرطوم).
ما تقدم هو بعض العناوين لاهتمامات القمم العربية، ولكني كمراقبة للأحداث ومعي ربما كثيرون، لم الحظ تأثيرات قراراتها إلا في الجانب السلبي، فماذا جنى العرب من رفض اتفاقية كمب ديفيد، غير مزيد من التنازلات، واضطرار الفلسطينيين بعد أعوام طويلة الى التوقيع على اتفاقية أوسلو، ما الذي حققوه من إبعاد مصر، غير أنهم واصلوا الخطى وفق مسارها السلمي؟ ثم ما الذي أفضت اليه سياسة تجاهل العراق غير إتاحة فرص أكبر للتمدد الإيراني؟
لقد غابت القمم العربية عن دورها في قضايا كثيرة، فأين كان دورها في الحرب بين العراق وإيران، وهنا أستثني الجزائر لما بذلته من جهود لوقف القتال بين البلدين، كلفتها حياة وزير خارجيتها محمد الصدّيق بن يحيى، الذي سقطت طائرته على الحدود التركية بتاريخ 03-0582، وقد قيل في حينه إن للنظام العراقي دور في تدبير هذا الحادث الأليم، انتقاماً من الجزائر بسبب علاقتها المميزة مع إيران في ذلك الوقت، ولأن ميزان الحرب كان يميل لصالح العراق، قبل أن تتمكن إيران من استرداد أراضيها المحتلة، فلم يكن النظام راغبا في إنهاء الحرب في تلك المرحلة. ومما غاب عن القمم أيضاً قضية الآلاف من اللاجئين الصحراويين الذين ما زالوا يعيشون ظروفاً بائسة منذ سنين طويلة. كما تبدو الأوضاع في الصومال جديرة بأقصى الإهتمام، لما أصبح يشكله الإضطراب في هذا البلد، من تهديد للعالم كله، ولما يعيشه شعبه من كوارث تستدعي مساعدة إخوتهم العرب.
ومما يدعو الى العجب إنه بعد قمة سرت في ليبيا، التي عقدت قبل عامين، لم يجتمع القادة العرب، بحجة الأوضاع الناتجة عن الإنتفاضات العربية، مع العلم بأن هذا السبب وحده هو ما يدعو الى الإلتئام لتدارس الموقف منها، ولايبدو سبب تأجيل القمة التي كان متفق على انعقادها في بغداد العام الماضي مقنعاً، فالأوضاع في العراق في الأمس لا تختلف عن اليوم، كما انه لم يكن من الصعب عقدها في عاصمة أخرى غير بغداد.
وعلى كل حال فإن انعقاد القمة في بغداد يبدو مختلفاً في دلالاته المعنوية، فلماذا؟
هناك أسباب عدّة لهذه الرؤية، منها أولاً، إن الدول العربية كافة، عدا الكويت، كانت غير مرتاحة لتغيير نظام صدّام حسين بالقوة، لأن بعض منها أحتفظ بعلاقات طيبة معه، وبعضها الآخر ناصبه العداء، لكنه لم يتقبل فكرة التغيير ذاتها، ولذلك ترجم هذا الموقف الى اعتماد سياسة البعد عن العراق، أو التصريح بإسناد المعارضين لحكومته وإيواء أركان النظام السابق، وتصدير الإرهابيين اليه،كما كان الحال بالنسبة للموقف السوري. ويلاحظ بأن السبب المعلن لإهمال العراق أو استهدافه، هو الإحتلال الأميركي، مع إن معظم الدول العربية تحتفظ بعلاقات وطيدة مع الولايات المتحدة، بل إن بعضها قدم أراضيه كقواعد عسكرية، انطلق منها الهجوم على العراق، كما هو الحال مع دولة قطر، بهذا المعنى يكون اجتماع القادة العرب- أو بعضهم - في بغداد إعلاناً ببدء عهد جديد من التفكير العربي، على مستوى القيادات، ينبذ تقاليد نظرية عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والسيادة المطلقة للأنظمة، بخاصة وإن قمة بغداد تأتي بعد مباركة الجامعة العربية للتدخل الدولي في ليبيا.
السبب الثاني للإختلاف - حسب رأيي- ولا أجد حرجاً من الإشارة اليه لملامسته للواقع، هو إن سقوط نظام صدّام أدى الى وصول السياسيين الشيعة الى الحكم، وهذا كان من المحرمّات لعقود طويلة أعقبت تأسيس الدولة العراقية. ولا شك في أن حكم الشيعة للعراق، وسط محيط إقليمي غالبيته سنّية، لا يمكن هضمه بسهولة، بل إن رئيساً عربياً مثل حسني مبارك، لم يخف امتعاضه، حين قال بأن من سيستفيد من تغيير النظام في العراق، هم الشيعة والكرد، وهو وإن حصدته رياح الثورة في مصر، لكن ما عبّر عنه ما زال فاعلاً في بعض أوجه التعامل السياسي، وإن كان بدرجة أقّل.
وما يجعل قمة بغداد مختلفة أيضاً، عودة العلاقات الدبلوماسية بين العراق والمملكة العربية السعودية، ما يشير الى تقبل ولو متأخر للحالة العراقية الجديدة، بصرف النظر عن بعض التفاصيل التي ما زالت عالقة. إن توطد العلاقات العراقية ndash; الخليجية، يوفر إمكانات أفضل لمواجهة الضغوط الإيرانية على الحكومة العراقية. ومما يساعد على ذلك أن تتقدم الكويت والسعودية بمبادرات حميدة لتخفيف ديونها على العراق، أو إسقاطها، إسوة بما فعلته الدول الأوروبية وغيرها.
وبالتأكيد سيكون لموضوع سوريا أولوية البحث على مائدة القمة، وهذا الأمر بحد ذاته هو ما يجعل اجتماع القادة العرب مختلفاً عما سبقه، فمتى كانوا يقبلون الخوض في نقاش حول إزاحة حاكم عن كرسيه؟ هم سيتحدثون بذلك في بغداد، وهذه سابقة تستحق التسجيل، وإن كانت الصورة ينقصها حضور الجانب السوري كطرف رئيس لسماع دفاعه كمتهم أو كمتلبس بجرائم تصفيات لمعارضيه.
إن طرح جرائم النظام السوري لا ينبغي أن يكون ألأول والأخير في اهتمامات القادة العرب، فالأحرى بهم أن يستعيدوا جرائم النظام السوداني في دارفور والجنوب، وبحث ما حصل من انتهاكات في اليمن، وبخاصة في جنوبها، كما يمكن للقادة العرب أن يناقشوا الحالة في البحرين، بخاصة بعد اعتماد الحكومة هناك على التقرير الدولي الذي صدر عن أحداثها .
ومن القضايا التي يؤمل أن تحوز على اهتمام المؤتمرين في بغداد، والتي تمس جميع الدول العربية والعالم، وليس العراق فقط، وهي الإرهاب، ومهم جداً أن يصار الى توصية تلزم جميع الدول العربية باعتماد سياسة تربوية من شأنها محاربة فكر الإرهاب، واجتثاثه من المناهج الدينية والتاريخية، وأن تجري متابعة لما يتم إنجازه بهذا الشأن، هذا الى جانب العمل على تحسين الظروف الإجتماعية للمناطق التي تشكل حواضن للإرهابيين، وضبط الحدود أمام محاولات تسللهم الى العراق وغيره من البلدان العربية.
مهمات كثيرة لن يتسع لها وقت القادة العرب في إقامتهم الخاطفة في بغداد، ولا يسمح بمعالجتها التمثيل المتواضع لبعض البلدان المشاركة، لكن الأمل في ما سيحصل بعد المؤتمر، من اتفاقات ثنائية أو ثلاثية، وهي غالباً ما تكون الأنجح على مستوى ترتيب الأوضاع العربية. إن العراق يستحق مزيداً من اهتمام العرب، لأنه سيكون رصيداً لهم في المستقبل، حين ينهض من ضعفه ويستعيد مكانته، فيذكر كل من مدّ يد العون اليه، وتعامل معه بما تقتضيه الأخوة.

[email protected]