ما أجمل مفردات اللغة العربية حين نعثر عليها في قصيدة شعر، أو في سجادة نثر، أو في رسالة توجع على فقد حبيب أو صديق، لكن الكلمات تبدو عادية وغير مؤثرة، حين يمتزج البيان بالتاريخ والسياسة، وتفرض المناسبة بلاغتها الخاصة، هكذا كانت كلمات الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة، في رثاء سلفه الأسبق أحمد بن بلّة الذي ودع سنواته الحزينة، يوم الحادي عشر من شهرنا هذا.
لاشك إن الرئيس فيما قاله كان مأخوذاً بمهابة اللحظة وسطوة الذكريات، من سنين مضت، كان فيها يغضّ الفكر عن معاناة شقيقه الأكبر في سجنه، وما كابده من حسرات على مجد لم يكتمل، ونضال مديد، ونشوة انتصار بددها الرفاق الأقربون. فماذا قال الرئيس عن صاحبه؟
quot; فقدت الجزائر أحد رجالاتها التاريخيين العظام، وحكيما من صفوة حكماء أفريقيا المتبصّرين. أدى الواجب بأمانة، مناضلا ومجاهدا ورئيسا، عمّت سمعته المشرّفة كل أرجاء العالم، وعلى الرغم من السنين التي أثقلت كاهله، فقد ظل أمينا مسهماً في تدابير المصالحة الوطنية وإرساء ثقافة السلم والمحبة والتآخي . لقد اقترن اسمه بتاريخ الحركة الوطنية، وترك بنضاله مآثر في مسيرة الجزائر ونهضتها ، منذ كان على رأس المنظمة الخاصة لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، في أربعينيات القرن الماضي. واليوم يبكي الجزائريون رجلا عظيما أضاء بحكمته وبصيرته الطريق الى الحرية وبناء دولة الجزائر الحديثة ..quot;
إن الرئيس حين يعدد مآثر رفيقه، يشعر بطمأنية كبيرة، لما قدمه للراحل من مراسم التكريم، وواجب الإعتذار، فقد منحه مكانة الضيوف الشرفيين، والمتميزين، في جميع المناسبات الوطنية التي أقامتها الرئاسة، كما أغدق عليه بشهادة الدكتوراه الفخرية، آملاً في كل ذلك، أن يخفف عنه مرارة عهد الإقصاء والتغييب. ويبدو انه نجح فيما أراد، فقد عرف عن بن بلّة في خريف العمر، ميله الى التسامح وعدم الحقد على من أبعدوه عن الحكم، وينقل عنه إنه وصف الرئيس الراحل هواري بو مدين، الذي قاد انقلابا ضده في العام 1965، وسجنه خمسة عشر عاما، بانه وطني وشهم، وكان بو تفليقة من الداعمين لذلك الإنقلاب، لكن بن بلّة وجد في النسيان محاسن تبدد عتمة الضجر من ضياع الأمجاد،
وهنا أتوقف عند مرثية قصيرة، كتبها معلّق في صحيفة جزائرية، يقول: quot; كان بن بلّة كالقلم تبريه العثرات ليكتب بخط أجمل، وهكذا حتى يفنى القلم فلا يبقى إلا جميل ما كتبquot;، وكذلك أنقل ما أضافه معلّق آخر، في فضل التسامح، مستندا الى الفيلسوف ابن عربي، فقد جاءه صديق بخبر عن من قال سوءاً بحقه، وجحد علمه ومكانته، فلم يكترث ورد عليه بأن قلبه لا يكاد يتسع للذين يحبهم، فليس فيه مكان ليملأه بكره من يعادوه.
وفي سيرة الراحل، غير التسامح، تاريخ معروف في النضال التحرري، مع نخبة من القادة، الذين تشعبت بهم المصائر والأمصار، فمنهم من تربع على قمة السلطة، ومنهم من تبدد عمره في حومة الصراع السياسي.
قبيل الإستقلال، وبعد إنجازه، كان رفاق الدرب مشغولين بخلافاتهم الحادّة، إن على المبادئ، أوعلى المكاسب، وقد وصلت الى مديات خطيرة ، لولا إن حسمها بو مدين الذي كان على رأس الجناح العسكري للثورة، لصالح بن بلّة، فأصبح أول رئيس للجزائر المستقلة، في العام 1962.
كان بن بلّة معجبا بجمال عبد الناصر في فترة المد القومي العتيد، ودعوات الوحدة العربية، ومقدراً للتجاوب العربي مع ثورة الجزائر، وفي الوقت نفسه كان ميّالا الى استلهام تجارب الدول الإشتراكية، في عصر ازدهارها، وهذا ما وضعه على طرف نقيض من توجه جمعية علماء المسلمين، التي كان يرأسها البشير الإبراهيمي، خلفا لمؤسسها عبد الحميد بن باديس. في حينه قال الإبراهيمي إن بن بلّة غيّب الإسلام، وتنكر لدوره في تحرير الجزائر، وأصدر بيانا أشار فيه الى إن الوطن quot; يتدحرج نحو حرب اهلية طاحنة، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل .. لقد آن للمسؤولين ان يرجعوا الى كلمة الإخوة التي ابتذل معناها الحق ..quot; ويضيف الإبراهيمي منتقدا اشتراكية بن بلّة، بقوله إن أعمال المسؤولين يجب أن تنبعث quot; .. من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب اجنبية..quot;. لم يمر هذا البيان دون غضب الرئيس الذي قرر فرض الإقامة الجبرية على رئيس جمعية العلماء، حتى انقضاء حياته في العام 1965.
ومثلما فعل الرئيس الأول مع العالم الكبير، من تحجيم وإقصاء، كانت له صولات ضد رفاق السلاح المقربين، فقد أصّر على تنفيذ حكم الإعدام بحق العقيد شعباني، بحجة التمرد وإحداث فتنة في الجيش، كما صدر في عهده، حكم بإعدام محمد بوضياف، لكنه نجى بفضل توسط البعض، ونفي الى فرنسا، ثم استقر في المغرب. أما القائد التاريخي الآخر، حسين آيت أحمد، فقد هرب من البلاد لتلافي مصيرا مشابها.
اهتم بن بلة خلال فترة حكمه القصيرة، بالبحث عن موارد للدولة الوليدة، وبمعالجة آثار التخريب الإستعماري، كما انشغل بتعريب التعليم، وجلب المدرسين العرب للنهوض بهذه المهمة التي لم تكن سهلة، ومازالت البلاد تعاني من آثار بعض قراراتها الإرتجالية. وكان متابعاً لسياسة عبد الناصر العروبية، ومتحمسا لها، على الرغم من ظروف الدولة الجزائرية، البعيدة كل البعد عن متطلبات النزعة الناصرية للسيطرة على الدول العربية، وضمّها تحت جناح مصر. لقد أسهم ناصر في الترويج لزعامة بن بلّة، على حساب القيادات التاريخية الأخرى، التي لم تكن تقل عنه في وطنيتها وتفانيها في طريق التحرر.
ومهما كان من مزايا حكم بن بلّة، وما أخذ عليه، فقد تكفّل رئيس أركانه ووزير دفاعه، العقيد هواري بومدين، بوضع حد لسلطته، وانقلب عليه في العام 1965، بذريعة إنه خرج عن خط الثورة، واستأثر بالسلطة، وإنه لابد من تصحيح المسار.
وهكذا وجد بن بلّة نفسه يتجرّع من الكأس نفسها، التي سقاها لرفاقه، حين فرضت عليه الإقامة الإجبارية في بقعة معزولة، قضى فيها أكثر مما دفعه من عمره في سجون المستعمر الفرنسي. لقد بدأ حكم بو مدين بتعطيل الدستور وحلّ البرلمان، وإعلان سلطة الثورة.
ومنذ ذلك التاريخ والجزائر محكومة بمنطق الشرعية الثورية، وإن كانت بدأت تخطو على استحياء وتردد، صوب نوع من الديمقراطية الجريحة، منذ أن اعترف رئيسها الأسبق الشاذلي بن جديد، بحق التعددية الحزبية، بعد انتفاضة أكتوبر في العام 1988، لكن حتى هذه الشرعية الثورية، لم تسلم من تراكمات الزمن العسكري، والآحادية الحزبية السابقة.
بن بلّة وبو مدين، كلاهما استند الى تراث الثورة وشرعيتها، حسب فهمهما لتلك الشرعية، الأول لم يمهله قانون السلطة، لكنه جاء في عشّية الفرح الطاغي بالإستقلال، وهو وإن حكم بفردية، إلا أنه احتفظ بنوع من البناء المؤسساتي المتواضع، أما الثاني فلم يدّعي أي ميل للديمقراطية، وكان صريحا في مركزية قيادته، وتغليبه لمفهوم الحكم، على تطوير أدواته، وهيأ له البقاء الطويل، فرصة بناء الدولة الجزائرية، فاحتلت مكانة متميزة بين دول العالم، وفي أفريقيا بشكل خاص.
وكل منهما انطوت صفحته لصالح شرعية جديدة، هي القدرة على مصارعة الإرهاب، والبقاء في الحكم أطول مدة، وتكوّن جيل جديد لا يهمه أين تكمن الشرعية، وألى أين تتجه، بقدر ما هو مهموم بترتيب عيشه، والإنعتاق من دائرة التهميش والضآلة الإجتماعية، جيل يتطلع الى الجزائر الغنيّة، وإلى أن ينعم كل الشعب بغناها، وليس فئة قليلة فقط، جيل يحب الإسلام ويريده متحررا من عقال مقولات الأقدمين، وغبار كتبهم، الى جانب شباب كثر اعتصموا بزوايا التاريخ، هرباً من مظالم لم يكن لهم قدرة على مواجهتها بغير الإختباء في ثنايا الماضي .
إن رحيل المناضل بن بلّة والمسافات التي مشاها في درب الآلام، يعيد الى أذهاننا قصص الثوّار في كل مكان، فكم من ثائر القت به أمواج الصراع فوق الرمال الباردة، ومن قضى حسرة في غياهب السجون، ومن مازال يشكو إهمال الإخوة، ويعاني من مرارة العيش. وكنت قد قرأت مؤخرا عن المناضلة جميلة بوحيرد، وكيف أنها تعاني من قلّة مخصصاتها كمجاهدة، التي لا تكفي لعلاجها. وكانت جميلة، قد زارت بغداد، في مطلع الستينيات، فكان العراق كله يزهو باسمها، ويتسابق الناس الى تحيتها وكأنها ملاك من السماء. بن بلّة ايضا زار بغداد، واحتفل به العراقيون كما يليق بالثوار القدّيسين.
في العام 1980، انتهت معاناة بن بلّة، وأصدر الشاذلي بن جديد، قراراً بإطلاق سراحه، فغادر الجزائر مختاراً، وفي باريس أسس حزب (الحركة من أجل الديمقراطية)، ثم عاد إلى الوطن في العام 1990، وشارك في الإنتخابات التشريعية التي أجريت في العام اللاحق، لكنه لم يحقق أي نجاح. وعند إيقاف المسار الإنتخابي، بعد فوز جبهة الإنقاذ، غادر بن بلّة الجزائر الى سويسرا، احتجاجا على تلك السياسة، ودأب من هناك على المطالبة بالمصالحة الوطنية. وبعد عودته ثانية الى بلاده، كان منسجما مع نفسه، واضعا يده في يد شقيقه الأصغر، بو تفليقة، للسير بالجزائر نحو بقاء الحال على ماهو عليه من الوئام، والعمل من أجل ديمقراطية على مقاس شعوبنا العربية.
رحل بن بلّة، تاركاً تاريخه النضالي، ومنصبيه الفخرّيين، كرئيس للجنة حكماء أفريقيا، ورئيس اللجنة الدولية لجائزة القذاّفي لحقوق الإنسان، وتاركاً ايضا أصدقاء من المؤتمر القومي العربي في بيروت، وذكرى صديق رحل قبله اسمه صدّام حسين.
لتنعم روحه بالسلام، ولتنأى عن آلام السياسة وعبث مفرداتها بصفو الحياة.