quot; عثرنا على مواعيدهم وانتظاراتهم، وقصصهم غير المكتملة، تحت جمر الصحراء، فعرفنا فصول أعمارهم التي كانت هنا ولم تعد، كانوا معنا وكنّا معهم، كانوا يضيئون النهارات بصبح خطواتهم، كانوا يضيئون الليالي بدفء وجودهم..quot;، هذه الكلمات كانت مقدمة لفلم ثائقي عن ضحايا أبرياء، ضاعت أصواتهم في غياهب الصمت، وذابت أجسادهم في رمال الصحارى، أما أرواحهم فما زالت تحدثنا وترجونا أن لا ننساها.
لانريد لذاكرتنا الحزينة أن ترهقنا وتحول بيننا وبين الإحساس بالحياة، لكننا نحتاجها بإلحاح حين توشك الأحداث أن تأخذنا الى الماضي الذي صنع تلك الذاكرة، هكذا فكرت وأنا في طريقي الى قاعة كافنديش للمؤتمرات، في لندن، حيث عقد مؤتمرعن المقابر الجماعية، نظمته وزارة حقوق الإنسان في العراق في الثاني عشر من الشهر الحالي، بالتعاون مع منظمات عراقية، ووزارة شؤون الشهداء وضحايا الأنفال، في إقليم كردستان، وشاركت فيه نخبة من الباحثين العراقيين والبريطانيين، وحضره ممثل عن وزارة الخارجية البريطانية، وآخر عن البرلمان. وكان من بين أعمال المؤتمر ودراساته، عرض لجرائم النظام السابق في كردستان قدمته السيدة بروين محمد نوري، وثائق رسمية عن حملات إعدام تمت في عهد صدّام، قدمها الخبير البريطاني بيتر بولص، بالإضافة الى بحث يتعلق بكيفية تطبيق القوانين العقابية والإجرائية، القاه السيد قاسم عبادي، عضو مجلس شورى الدولة، وتحدث السيد حيدر العكيلي عن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وأهمية تطبيقها في موضوع المقابر الجماعية، كما شرح السيد سعد كاطع، قانون حماية المقابر الجماعية المرقم 5 والصادر في العام 2006.
وقد نبه السيد محمد شياع السوداني، وزير حقوق الإنسان، الى أن أعمال العنف والإرهاب التي شهدها العراق، لم تمح من ذاكرة العراقيين انتهاكات النظام السابق، وإن هذا المؤتمر يهدف الى تفعيل الإتفاقيات الدولية المتعلقة بجرائم الإبادة الجماعية، والى دفع المجتمع الدولي الى الإعتراف بخطئه في السكوت عن الجرائم التي ارتكبت بحق العراق. ومن ناحيته، أكّد وزير شؤون الشهداء والمؤنفلين في كردستان السيد آرام أحمد محمد، على وحشية جريمة القصف الكيمياوي لمنطقة حلبجة الكردية، في العام 1988 وقتل الألوف من الكرد الفيليين والبارزانيين.
وحسب ما ورد في أحد البحوث المقدمة للمؤتمر، فإن عدد المقابر الجماعية المكتشفة، بلغ 166 مقبرة، تم فتح خمس وعشرين منها، بينما نقل عن وزارة شؤؤن الشهداء الكردستانية، إن عددها في جميع محافظات العراق، بلغ حتى تاريخ منتصف العام الماضي، 346 مقبرة، وإن واحد وثمانين منها، تضم ضحايا عمليات الأنفال، الذين اعدمتهم قوات النظام السابق في العام 1988، وإن العمل جار على انتشال رفات المئات من الكرد، من سبعين مقبرة تم اكتشافها خلال العام الماضي، في مناطق حمرين. وحسب المركز الإعلامي لوزارة حقوق الإنسان، فإن عدد المقابر هو 180 مقبرة، تم فتح تسع واربعين منها. ويبدو إن الإختلاف في العدد يرجع الى تنوع مصادر البحث، وعدم التنسيق بينها، ومهما يكن فإن ذلك لايقلل من هول الحقيقة. وكان علي حسن المجيد، قريب صدّام وأحد أركان حكمه، قد اعترف بقتل مئة ألف من الكرد في تلك الحملة، أمام وفد كردي مفاوض، في بداية التسعينيات، في الوقت الذي تقدر مصادر كردية عدد المؤنفلين ب 182 ألف.
كثير من الحقائق والوثائق عرضت في المؤتمر، لكن أبلغها رسوخاً في الخاطر والضمير، هو ما شاهدته في الفلم الوثائقي (التراب يقول)، أصوات تدمي القلوب لأمهات يبحثن عن عظام ابنائهن، آباء جفّت دموعهم وافترشوا التراب، لعلّه يحكي لهم قصة اللحظات الأخيرة من عمر أولادهم، يشمون رائحة دمائهم، ما أبشع أن يكافأ الإنتظار الطويل بكومة من عظام، ووسط هذا الليل في وضح النهار، ينطلق بعض الأهالي حاملين أكياساً سوداء تضم رفات أحبائهم، وجوههم يعلوها التراب، لكنهم واثقون بأن انتظارهم قد انتهى، وإن سكون الموت وعهود القهر لم تسكت صوت الحقيقة.
وقبل هذا لفلم، كنت قد شاهدت العمل المتميز للمخرج محمد الدراجي (إبن بابل)
الذي عرض قصة امرأة كردية تبحث عن ولدها بين ركام المقابر، وكانت قد اصطحبت حفيدها، آملة أن يكون ابنها ما زال حيّاً، وقد أطلق سراحه من سجنه بعد دخول الجيش الأميركي الى جنوب العراق، كما قيل لها، مشهد لن أنساه حين وقفت تلك المرأة على جرف صغير، متحاملة على ضعفها وسنين صبرها، لتغسل وجه حفيدها، كي يراه أبوه مشرقاً، ثم ما لبث التراب أن غطى وجه ذلك الصبي حين اكتشف أن أبيه مجرد كومة عظام، ماتت الجدة في طريق عودتها لكردستان، وبقي ابن بابل، أبن العراق يتطلع للشمس، الى فجر جديد.
إن تجديد الاهتمام بهذه المفردة المأساوية من تاريخنا القريب، ضروري في ظروف تشهد البلاد صراعاً سياسياً وفقراً إجتماعياً، وعودة لعمليات الإرهاب، مع بروز مطامح واضحة لدى مجموعات من البعثيين للعودة الى السلطة، بمساعدة القائمة العراقية التي تخوض معركة حياة أو موت مع حكومة السيد المالكي، معركة الشعب ليس طرفاً فيها بل يدفع ثمنها من أرواح أبنائه.
إن الهدف الأساس من المؤتمر، هو تذكير العالم بما ارتكبه النظام السابق من جرائم، ومواجهة أي محاولة لإنكارها أو التقليل من فظاعتها، بدعوى المصالحة الوطنية مع بقايا البعث، أو إن الاهتمام لابد أن يتركز على تحقيق الإستقرار في البلاد، وتحسين الأداء السياسي، وإن من الأفضل نسيان الماضي، ولكن كيف ننسى؟ إن المصالحة الوطنية قد تبدو هدفاً سامياً، لكنها نادراً ما تتحقق بين الجلاد والضحية.
حديث المقابر موجع، لكن لابد منه لإيقاظ الروح الجماعية، وحثها على الإنتقال من دائرة الصبر الملول، الى حيث المبادرة والإحتجاج على كل ما من شأنه إبقاء العراق في محيط الترقب والموت، الإحتجاج على المفسدين والمتاجرين بمعاناة الشعوب، والناكرين لها ايضاً. في أيّار- مايو من العام 2003 اكتشفت أول مقبرة في منطقة المحاويل (محافظة بابل) وتضم عشرة آلاف ضحية. وبعدها توالى البحث عن المزيد، لتظهر مقابر أخرى على سعة أرض العراق، منها: مقبرة سهل عكّاز (محافظة الأنبار) وتضم 812 ممن قتلوا خلال أعوام الثمانينيات، مقبرة نقرة السلمان (محافظة المثنى) وتضم 2500 من الكرد الذين قتلوا أثناء انتفاضة العام 1991، مقبرة مهاري (الديوانية) وفيها 240 ضحية، مقبرة طوب زاوة (جنوب غرب كركوك)، وتضم المئات من الكرد. هذه بعض الأسماء وغيرها كثير. ويذكر أن وزارة حقوق الإنسان تعكف على إعداد قاعدة بيانات متكاملة عن ضحايا المقابر الجماعية.
إن جهود الوزارة في هذا المجال، أمر يستحق كل التقدير، وآمل أن لا يكون الماضي فقط محركاً للعزائم، بل أن يكون الحاضر في مركز الإهتمام، أن يحظى الإنسان العراقي بالإحترام والرعاية، وهذا هو أفضل ما يمكن تقديمه لعوائل ضحايا المقابر الجماعية، ولأرواحهم البريئة.
إن توجه وزارة حقوق الإنسان الى المجتمع الدولي للتعريف والتذكير بأهوال جرائم العهد المباد، ينبغي أن يقترن بتحسين أداء الحكومة بشكل عام، والتوجه الصادق لاجتثاث الفساد، لأنه أهم من اجتثاث البعث، فهو يوفر بيئة مشجعة للسيئين من البعثيين، كي يمارسوا نشاطهم، ويعجّل من وصولهم لأهدافهم في إشاعة الفوضى والخراب في البلاد. ومن المهم التوجه الى عوائل ضحايا النظام السابق من البعثيين الذين عارضوا فعلاً، وليس رياءً، ودفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم، فقد بدأ صدّام عهد رئاستة في العام 1979 ، بمذبحة لزملائه في قيادة الحزب، وكنت اتمنى على المحكمة الجنائية لو أنها بدأت بقضيتهم عندما حاكمت صدّام.
وفي اعتقادي إن التوجه الى المجتمع العربي لفضح جرائم النظام السابق، هو أهم من التركيز على المجتمع الدولي، فبقايا صدّام تستقر بأموالها ونفوذها وعلاقاتها، في الدول العربية، وتحاول استغلال تعثر العملية السياسية وتفشي الفساد، لإقناع الأوساط السياسية العربية بعدم جدوى الإنفتاح على العراق، كما توظف النزعات الطائفية للإساءة الى الحكومة العراقية.
وفي الختام أدعو وزارة حقوق الإنسان الى التعريف دولياً بكل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي، ليس فقط ما كان منها على عهد النظام المباد، ولكن أيضا مااقترفه الجيش الأميركي من أبادة للقوات العراقية المنسحبة من الكويت في العام 1991، وكذلك جرائمها في حربها الأخيرة، وفي رأيي إن أكبر ما فعلته القوات الأميركية، من آثام هو تركها لحدود العراق مفتوحة أمام سيل الإرهابيين العرب، quot; ليجاهدواquot; بدماء الشعب العراقي ويجعلوا من العراق أفغانستان ثانية. كما ينبغي ان تفتح ملفات الإرهاب الذي مارسته الميليشيات المسلحة.
إن ذكرى ضحايا المقابر الجماعية لا يحجب عنا مشهد المقابر الجديدة التي زرعها الإرهابيون في العراق، كما لا تحجب عنّا حقيقة تعاون أطراف سياسية مع هؤلاء، واستخدامهم كورقة ضغط في التفاوض على المكاسب وصراع الكراسي، وفي كل ذلك لا ننسى ما يشير اليه واقعنا من تراجع القيم، واندحار المبادئ لدى معظم السياسيين، الباحثين عن المال والجاه في أرض العراق الغني والمبتلي بفقر الذمم وضعف الإيمان لدى الكثير من القوى السياسية.
- آخر تحديث :
التعليقات