أعترف بأننى فى معاناه شديدة، وأحاول لملمة أفكارى المبعثرة منذ أكثر من عام فى محاولة لفهم ماحدث ويحدث فى بلادى، علما بأننى لم أكن يوما معزولا عن الشارع بل أعيش وسط الناس متصلا بهم إتصالا حيا ومباشرا ويوميا، متصلا بكل أطياف المجتمع وطبقاته دون استثناء، كما أعترف بأنه وطوال العقد المنصرم كنت أسيرا لهاجس واحد سيطر على أفكارى، هذا الهاجس كان هو: أن انفجارا سيحدث فى بلادى لكن ليس فى هذا الاتجاه المختلف المفاجئ، وكان سهم البوصلة يشير بقوة إلى حرب أهلية ستنفجر بين عنصرى الامة المصرية، فقد كانت موجات الاحتقان الطائفى تزداد تتابعا وهياجا يوما بعد يوم وكانت نتائجها المتوالية طيلة السنوات العشر الماضية وقبلها شديدة الوطأة على مكون أصيل من هذه الأمة العريقة فقد إتخذه المناوئون للنظام كوسيلة سهلة ودنيئة للتحرش به والانتقام منه. وعلى مدى طروحات عديدة فى منابر داخل وخارج مصر حملت هذا النظام كله مسئولية إراقة دماء إخوة لى فى الوطن ذهبوا ضحايا لمتوالية القهر الطويلة التى عانى منها المصريون كل المصريين نعم متوالية قهر طويلة، فالنظام قهر الناس واستعبدهم والناس قهروا بعضهم،ولان القهر يستلزم آليات للتمييز والفرز فقد تفنن المصريون فى ابتداعها كما فى كل المجتمعات المقهورة نعم ابتدعوا وسائل كثيرة لتفريغ شحنة القهر الهائلة التى بثها النظام فى عظام الناس، وأعاد الناس بثها فى بعضهم بتصنيفات عديدة، منها الدين والجنس والعرق والزى واللقب وغيره وغيره، ويوجد فى بلادى أكثر من عشرين علامة توضع على السيارات لتمييز أصحابها عن بقية البشر الراكبين والمترجلين، ويوجد فى بلادى كم من الالقاب الزائفة والمناصب الهلامية لا مثيل له فى الدنيا بأسرها يتخذها المصريون وسيلة للتمايز الكاذب بعضهم على بعض، ويوجد فى بلادى وسائل أخرى كثيرة لتفريغ شحنة القهر التى يبثها النظام فى الناس ويعيد الناس بثها فى بعضهم البعض، موجات احتقان وعنف وفساد وفوضى فى كل مناحى الحياه، يبثها المعلم فى التلاميذ ويبثها الرئيس فى المرؤوس والجار فى جاره وحتى الزوج فى زوجته وأولاده.

كما وأن استيعاب ما جرى فى بلادى يحتاج إلى رؤيا متعددة الزوايا ولكن من يستطيع أن يرى وسط هذا الضباب الكثيف؟؟ لذا أنصح القراء بتوخى الحذر فى مطالعة هذا الطرح وغيره فى هذه الظروف لأن الكتابة من قلب الحدث لها مخاطر عديدة، منها الانفعال وتأثير الميديا وتعقيدات المشهد والتطور المتسارع للأحداث، بالاضافة لنقص المعلومة الامينة المحايدة ولا ننسى الخلفية السياسية او الايدلوجية للراوى ( والمتلقى أيضا )، كما نؤكد على ضرورة الفرز الذكى بين ما نقرأه وما نشاهده وما نسمعه، وهل هى تحليلات محايدة أم هى انطباعات أو تمنيات أو تصفية حسابات أو صوره من زاوية ضيقة يبثها طرف أو أطراف لا نستطيع تبرئتهم من شبهة انحياز قد يوصم بها الجميع فى هذه اللحظة من التشنج والاصوات المبحوحة.بالإضافة لعامل مهم وهو ركوب الموجة من محترفى ركوب الموجات وتحويل اتجاهها ليصب فى صالح أهدافهم الخبيثة وتفريغ هذا الحدث من محتواه النقى.

واللذين يقولون بان شهداء 25 يناير كانوا باكورة الضحايا لهذه الثورة نقول لهم ان شهداء القطارات المحترقة وشهداء العبارات الغارقة وشهداء قوارب تهريب البشر وشهداء الفتن الطائفية وتفجيرات الكنائس وغيرهم وغيرهم من شهداء الفساد، كل هؤلاء كانوا ضحايا هذا النظام الفاشل وتابعية المستفيدين من غبائه السياسى والامنى، وكل هؤلاء الضحايا قبل 25 يناير كانوا المحفز والمحرض والدافع الرئيس لهذه الثورة، وما هؤلاء الأعزاء الذين دفعوا دمائهم فى الميدان الشهير سوى ضحايا المشهد الأخير لهذا النظام.وعندما اقول هذا النظام لاأقصد رأسه فقط ولكننى أقصد كل الهياكل الفاسدة التى صاحبته، كل الوجوه التى كانت على الساحة، كل الاسماك النافقة التى كانت طافية على السطح، فى الحكم او خارج الحكم فى النظام او خارج النظام،معارضين وموالين، كل الوجوه الكالحة التى ساهمت فى إضفاء شرعية زائفة على ممارساتة الغبية التى كادت أن تقذف بنا إلى المجهول.

لكن يظل السؤال الكبير ماذا حدث ومن هؤلاء ؟؟ وأعتقد بأن هذا السؤال سيظل مطروحا لعقود طويلة،نظرا لمعطيات إنقلبت إنقلابا على كل النظريات المعروفة عن الثورات ومسبباتها ووسائل تنفيذها، فالحدث صدم كل أجهزة الرصد الاستراتجى فى كل الدنيا، ورأينا كيف تخبطت أقوى أجهزة الاستخبارات فى العالم وفشلت حتى فى توقع سيناريو واحد لساعة واحدة قادمة، وكان مسئولوها يلهثون متخبطون ونظرة على الموقف الامريكى المضحك كمثال قد توضح الصورة أكثر، وربما نكون إجابة بسيطة بعيدة عن التعقيدات قد تفى بالغرض فهناك شباب امتلكوا ناصية التكنولوجيا ووظفوها لاقتلاع نظام من جذوره ونجحوا بعد ان دفعوا ثمنا عادلا لحرية أمة فالحرية لا تعطى للأمم هبات أو منح. أما من هؤلاء؟ فبكل المقاييس هم ليسوا قطيعا من الجياع هبوا من اجل ملئ فراغ البطون، فكل الشواهد على الارض تكشف أن هؤلاء الشباب مستخدمى هذه الوسائل التقنية الحديثة المكلفة نسبيا كانوا على الاقل من الطبقة الوسطى أو ربما هم الشريحة الأعلى منها، ونظرة سريعة على مظهرهم (وأنا هنا أتكلم عن الموجات الاولى لهذا التسونامى العجيب) ربما تعزز المقولة، شيئ آخر أنهم لم يكونوا فوضويين أو سفهاء بل كانوا منظمين واعين (ولا زلت أتحدث عن الموجات الاولى منهم )، وفى هذا السياق لا أجد حرجا من ألوم نفسى ففى مرحلة ما عندما كنت أرى تجمعاتهم فى أى مكان وأستطلع مظهرهم وأزيائهم وأسمع أحاديثم كان اليأس يتسرب إلى قلبى.وفى هذا السياق وكما تحدثنا عن متوالية القهر يجدر أن نتحدث عن متوالية الحرية، فالشاب الامريكى الذى بث فيه مجتمعه روح الحرية أعاد بثها فكرا مبدعا وابتكر آلية للتواصل الانسانى على اتساع الكوكب، هذه الآلية التى أشعلت ثورة فريدة فى التاريخ ربما تغير وجه هذه الامة وربما تغير وجه العالم، وهذا هو الفارق بين ناتج متوالية القهر وهو التعصب والعنف والحقد والاهانة وناتج متوالية الحرية وهو الحياه والكرامة والابداع.

وهؤلاء الشباب الغاضب أيضا هم من كفروا بكل من على الساحة كفروا باحزاب وسياسيين وتيارات لم تنتج لنا سوى اطنان من الهراء وملوثات الماء والهواء وشعارات جوفاء طنانة، وطيلة نصف قرن احتلوا الواجهة مع الانظمة المستبدة وتبادلوا الادوار وضاعت أرض وضاعت قضايا وضاعت قيم أصيلة ونبيلة وبرزت على الساحة قيم مشوهة، وأعتقد أنه آن الأوان ليبتعد (عواجيز الفرح) وكل العواجيز ليفسحوا طريقا لهؤلاء الشباب الانقياء ليصيغوا مستقبلهم، مستقبل جديد لا تظهر فيه هذه الوجوه الكئيبة وتلوث ثورة هؤلاء الشرفاء، تلوثها بأفكارهم التى عفا عليها الزمن أفكارهم الخبيثة التى بثت الحقد والغل بين أبناء الوطن،نعم كفر هؤلاء الشباب بكل هؤلاء الذين يهدفون لدخول مصر النفق المظلم الطويل الذى دخلته شعوب من عقود ولم تخرج منه بعد، الذين يحاولون إعادة إنتاج حلقة جديدة من متوالية القهر ليعيش المصريون حقبة أسوأ من كل الحقب السابقة.